ما هي دعوتنا اليوم؟ «متفرقات

 

 

 

 

 

دعوة التلاميذ، دعوتنا نحن اليوم، هي أن نعلن لإخوتنا أين هي الحياة الحقيقيّة، هدفنا الأوّل ليس شفاء العلل والأمراض، بل أن الشفاء يأتي نتيجة دعوتنا الأولى: إعادة الإنسان إلى علاقته السليمة مع الرّب إلهه. هدفنا هو شفاء القلب، شفاء الكيان، شفاء الإختيار، دعوتنا هي أن نعيد الخاطئ الى حبّ الله. إخوتنا اليوم يتألّمون بأمراض كثيرة، وبعلل شتّى، لأنّهم يفتّشون عن سعادة القلب في الأماكن الجافّة، يفتّشون عن مياه الحياة في الأبار الموحلة، يفتّشون عن ملء فراغ قلبهم بالسعادة العابرة، فلا يصلون سوى إلى الفراغ، إلى الألم، إلى الشقاء.

 

 

 

 

 

دعوتنا التفتيش عن سبب الألم الأوّل، والرّب أعطانا كلّ قدرة على طرد الشيطان لنشفي من كلّ مرض وعلّة"، فهل نفتّش عن سبب الألم الأوّل؟ هل نسعى إلى معالجة أسباب المرض بدلاً من التفتيش عن علاج النتيجة؟ إن خطيئة شبابنا اليوم ما هي إلاّ تفتيش عن فرح يرغبون به ولا يجدونه، يرغبون في أن يكون قلبهم مليئاً، يخافون من وحدة مجتمع يتفكّك، يخشون حكم الآخرين الظالم، يهربون من واقع عائلات مفكّكة، يريدون الحبّ ولا يجدونه.

 

 

 

ماذا نفعل نحن؟ أنداوي النتييجة بدلاً من مداواة السبب؟ أنرجم الخاطئ بدلاً من تبديل واقع الخطيئة؟ المسيح أعطانا كلّ سلطان لنعالج سبب الخطيئة، أعطانا منطق الإنجيل نبدّل به عائلاتنا، مجتمعنا، وطننا والكون بأسره. بقيم الإنجيل نقدّم للعالم منطقًا جديدًا، لا منطقًا مبنيًّا على الشرّ والعنف والحقد والإنتقام، على المغفرة والمحبّة وقبول الآخر، الآخر المختلف عنّي. حين نقدّم لشبيبتنا عالمًا على قدر طموحها، لن تسعى إلى التفيش عن فرحها في قمامات الخطيئة، حين أعطي للشاب شهادة عن جمال الحياة وقيمة الإنسان، حين أريه أنّي أحترمه وأثق به، سوف يعرف أن الله قادر على أن يعطيه الفرح. حين أحبّ الآخر، يمكنني أن أشفي علله وأمراضه، فالحبّ وحده يذهب إلى سبب الدّاء، الحبّ وحده يقدر أن يداوي ويحرّر ويشفي الجراح.

 

 

 

 

لقد أمر الرّب تلاميذه أن ينطلقوا بإنجيلهم من جماعتهم، ليحملوا البشارة منها إلى الكون بأسره. فلا يجوز أن تبقى "خراف الله" تائهة، والرّب قد تجسّد في وسطها، لقد أُعلنت البشارة في وسطها لتكون وسيلة الخلاص للسامريِّين وللوثنيِّين. فإن كان خلاص الوثنييّن هو مثل "غصن طُعّم في جذع الزيتونة المقدّسة" كما يقول بولس، فلا بدّ أن يعلن للخلاص للجذع أوّلاً، فكيف يمكن لزيتونة المقدس أن تقدّس العالم، إن لم تكن قد تكرّست بعد بِبُشرى الخلاص؟

 

 

 

لذلك أرسلهم الرّب اثني عشر، أثنا عشر تلميذًا ينطلقون إلى القبائل الإثنيّ عشر ليعلنوا لها أنَّ المسيح قد أتى، وأنَّ الخلاص قد أُعلن. ومن إسرائيل لا بدّ أن تُعلن الكلمة حتى أقاصي الأرض.

 

 

 

 

لقد دعي التلاميذ لإعلان حقيقة الإيمان: "إنَّ ملكوت الله قد اقترب". لن يكون التلاميذ أوّل من أعلن هذه الحقيقة، فأوَّل شخص أعلنها كان يوحنّا المعمدان، في كلامه عن حمل الله المتجسّد، والمسيح أعلن الحقيقة نفسها متكلّمًا على خلاص الرّب الذي بدأ يثمر، والآن صار التلاميذ مدعوّين لإعلان هذه الحقيقة، حقيقة ملكوت تحقّق بحلول المسيح في أرضنا، تحقّق بموت المسيح من أجلنا.

 

 

 

إنّ هذه الكلمات تحمل رسالة للتلاميذ أيضًا: يوحنّا المعمدان قد مات من أجل إعلان الحقيقة هذه، والمسيح قد مات أيضّا لأنّ الكون لم يكن مستعدًّا لاستقبال هذا النوع من الملكوت، والآن على التلاميذ إعلان هذه الحقيقة والعمل على بناء هذا الملكوت، رغم معرفتهم أنَّ هذه الحقيقة لا بدَّ أن يعلنوا عنها بشهادتهم، كما فعل يوحنّا، وكما تمّم المسيح.

 

 

 

ونحن أيضًا مدعوّون لهذا الإعلان، فنحن رسل المسيح اليوم، تكرّسنا له بعمعوديّتنا، نسمع كلمته تدعونا لأنّ نكون من عداد تلاميذه، لنأخذ منه قدرة قتل الشّر في عالمنا وفي حياة إخوتنا. مدعوّون لأنّ نعلن هذه الحقيقة لا بالمنطق فقط أو باللسان، بل بالشهادة، بشهادة الحياة أوّلاً، لكيما يؤمن بصحة رسالتنا من يشاهد أعمالنا الحسنة، وبشهادة حبّنا، ليعرف العالم أنّنا مسيحيّون لأنّنا نحبّ بعضنا بعضًا، وصولاً إلى بذل الدّم إذا أوجب حبًّا بالمسيح ووفاءً له.

 

 

فنحن مسؤولين اليوم عن خلاص إخوتنا وعن استمرار بشارة الرُّسل، فلا يحقّ لنا التراجع، ولا أن نقول "أنا لست معنيًّا، فهناك آخرون يعلنون"، فبمعموديّتي دعاني الرّب لأعلن إنجيله، في بيتي، في عملي، في دراستي، في ديري، في رعيّتي، مع أصدقائي، لا بكثرة الكلام، بل بعيش منطق الإنجيل وبالإلتزام به حيثما كنت، دون خوف ولا خجل، أعلن إرادة الله، وحبّ المسيح، وأعلن منطق المغفرة والمصالحة والمحبّة والسّلام في عالم يتألّم من الإنقسام والحقد والدّم والحروب العبثيّة.

 

 

 

 

 

الأب بيار نجم.