تكريم مريم في شهر أيّار
"يا أولاد مريم وافوا للسرور
في شهر تكرَّم من بينِ الشهورْ"
منذ انطلاقة الكنيسة وهي تكرِّمُ أمَّ الربِّ المباركة بين النساء. فحين دخولِها على نسيبتها أليصابات، والكنيسة تُردِّدُ مع النسيبة: "من أين لنا أن تأتي إلينا أمُّ ربِّنا؟" أمّا مريم فما فتئت تنشدُ: "تُعظـِّمُ نفسي الربَّ وتبتهجُ روحي باللهِ مخلّصي. فها منذ الآن جميعُ الأجيالِ تُطوِّبُني، لأنَّ القديرَ صنعَ بي عظائم" (لو 1/ 46-47).
وعند الصّليب، أوكلَ يسوعُ أمَّهُ للتلميذِ الحبيب الذي ظلَّ أمينًا لمعلّمه الإلهيّ ورافقهُ إلى الجلجلة، فقال له يسوع: "هذه أمُّك". وقال لمريم: "يا امرأة هذا ابنُكِ" (يو 19/ 26-27). ومنذ ذلك الوقت، أخذ التلميذ الحبيبُ مريمَ إلى بيته.
فالتعبُّد للعذراء الطوباويّة والدة الإله بدأ منذ صعودِ الربِّ إلى السّماء، فهي الحاضِرةُ دومًا وسط جماعةِ الرّسلِ والمؤمنين، تُصلّي معهم لحلولِ الرّوح القدُس عليهم، فأضحتْ من خلالِ التلميذِ الحبيب، أمًّا لكلِّ واحدٍ منهم، وبالتالي أمًّا للكنيسة الجامعة، تشفع بأبنائِها الأوفياء وهم يُقدِّمون لها فرائضَ الأبناء المخلصين. فبتكريمها يُكرِّمون الابنَ الإلهيَّ الذي وُلد منها، فلا يُعتبر تكريمُها انتقاصًا لتكريم الابن وعبادته، لأنَّ من يُكرِّمُ الأمَّ يكرِّمُ الابن أيضًا. ولا يعودُ تكريمُها الفائق إلّا لكونِها أمًّ لابنِ الله المولودِ في الزمن منها وقبلَ الزمن من الله.
وإذا عدنا إلى تكريم مريم نجدُ حضورًا لها في دياميسِ رومة ومدافنها من خلال صورٍ بديعةٍ لمريمَ تحملُ الطفلَ الإلهيّ. وقد وُجِدت هذه الصور في مدافن القرن الثاني والثالث للمسيح كمدفن فلافية دوميتلاّ من نسل القياصرة ومدفن البابا كليكستس ومدفن القدّيسة أغنس ترى فيها صور العذراء على هيئات شتّى وفي حجرها أبدًا الطفلُ الإلهيّ الذي إليه مرجع عظمتها وسموِّ مقامها. وهكذا نستطيع أن نقول إنَّ تكريمَها يعودُ إلى العصورِ الغابرةِ والأولى للمسيحيَّة، أي منذ نشأتها الأولى.
هذا ونذكرُ أنَّ التعبُّدَ لمريمَ البتول ظهرَ بأشكالٍ متنوِّعة باختلاف الأمكنة والأزمنة وباختلاف الشعوب المسيحيّة التي راحت تكرِّمها كلٌّ بحسب طريقته وتقاليده الخاصّة.
وأعمقُ أثرٍ يعودُ إلى بداية المسيحيَّة هو السلامُ الملائكيُّ الذي شاع انتشارُهُ لتكريم أمِّ الله في الغرب المسيحيّ وهو يُنسبُ إلى البابا سلستين (423-432) جعله كدستور الإيمان الكاثوليكيّ في الأمومة الإلهيَّة. وبهِ يُلحَقُ تعبُّدان آخران نراهما اليوم منتشرَين في كلِّ المعمور يرقى أحدُهما إلى أواخر القرن الحادي عشر وهو صلاة بشارة الملاك (التبشير) والثاني عبادة الورديّة وصلاة المسبحة التي تُعزى إلى القدّيس عبد الأحد في أوائل القرن الثالث عشر.
وهنا ظهر صنفٌ جديد لتكريم العذراء الكلّيَّةِ الطوبى وهو يعود كلَّ سنة في فصل الربيع نعني به الشهر المريميّ. فهذه العبادةُ التقويَّة نالت حظوةً كبرى لدى المؤمنين فتراهُم يُقبلون على ممارستها بإقبالٍ شديد. فلا تخلو كنيسة أو مزارٌ أو معبدٌ إلّا ويجتمعُ فيها المؤمنون لصلاة السبحة والزيّاح المريمي طوال شهر أيّار.
فمتى نشأتْ هذه العبادة في هذا الشهرِ المباركِ وما مدلولها؟
فأوَّلُ من ذكر شهرًا يُخصَّصُ لإكرام ِ البتول مريم هو الأب حنّا نادازي اليسوعيّ الألمانيّ إذ طبع سنة 1664 كتابًا صغيرَ الحجم دعاهُ المحبُّ لمريم وهو يتضمّن 31 رياضة تقويَّة لإكرام أمِّ الله مدّة شهر كامل، دون أن يحدِّد شهرَ أيَّار كشهرٍ تُكرَّمُ فيه البتولُ الطاهرة. وُضعَ هذا الكتاب في اللغة اللاتينيَّة ثمَّ نُقلَ إلى الألمانيّة سنة 1711. كما ألّفَ الأب نادازي تآليف عديدة في العبادة المريميَّة وعلاقة مريم بيسوع، وطبعَ بخاصَّةٍ كتابًا حول فضائل مريم العذراء الطاهرة وأعمالها والتعبُّد لها لكلِّ يوم ٍ من أيّام السنة سمّاهُ السنةُ المريميَّة.
وفي سنة 1724، ظهر كتابان، أحدُهما في ألمانيا في ديلنغُن والآخر في إيطاليا، لأبوين يسوعيّين يعيّن الإثنان فيهما شهرَ أيّار لتكريم أمِّ الله مريم، ويتضمّن الكتابان حياة مريم وفضائلها تُتلى على مدار أيّام أيّار الحادية والثلاثين. فالأوّل دوّنه الأب كسافيي جاكولة السويسريّ الموطن (1681-1746) والثاني الأب أنيبال ديونيزي الإيطالي المتوفي سنة 1756 في فيرونة. دُعي الأوّل الشهر المريميّ أو ترجمة البتول الطاهرة وفضائلها نقلاً عن آباء الكنيسة وهي مقسَّمة على عدد أيّام شهر أيّار لتكون دستورًا للمتعبّدين لمريمَ في أخويَّتِها في ديلنغن، وعدد صفحات الكتاب 216 بالحجم الصغير. وهذا المصنَّف نُقِلَ إلى لغاتٍ شتّى وعُرِفَ بأوّل كتاب متضمِّن رياضات الشهر المريميّ.
أمّا الثاني فيتضمَّن التعبُّد لمريم في شهر أيّار، يبدو أنَّ الكاتب ألّفهُ قبل تاريخ 1724 لكنَّ طبعة الكتابِ الأولى فـُـقِدت وظهرت الطبعةُ الثانية منه سنة 1726 نُشرت بالإيطاليَّة في بارمة.
ولكنّ الكتاب الذي أصاب شهرة واسعة فيعود إلى الأب فرنسيس لالوميا اليسوعيّ الذي ألّفه وطبعه في وطنه بالرمو سنة 1758 ثمَّ كرَّر طبعه مرارًا عديدة. ثمَّ انتشر بعد وفاته انتشارًا واسعًا ونُقلَ إلى أكثر اللغات الأوروبيّة.
وفي سنة 1785 طبع الأب ألفونس موزارلّي اليسوعيّ كتابًا نفيسًا دعاهُ "الشهرُ المريميّ" كان له التأثير الكبير على المؤمنين الكاثوليك لاسيّما وأنَّ هذا الأب كان له نفوذٌ كبيرٌ وسلطةٌ واسعة، إذ رافقَ البابا بيّوس السابع في منفاهُ إلى فرنسا. فحيثما حلَّ حثَّ المؤمنين بكلامِهِ العذبِ على التعلّق بأهدابِ البتول الطاهرة والتماسِ حمايتها خصوصًا في شهر أيّار لتسكّن بشفاعتها الرّياح التي كانت تعصفُ بالكُرسيّ البابويّ. فتألّب المؤمنون حولّ أمِّهم مريم العذراء وراحوا يكرِّمونها بحرارةٍ لامتناهية. وممّا أفاد هذه العبادة شيوعًا أنَّ الأحبار الرومانيّين أثبتوها بسلطانهم الأسمى، وبخاصَّةٍ البابوات بيّوس السابع سنة 1815 وغريغوريوس السادس عشر سنة 1841 وبيّوس التاسع سنة 1858.
ولم تنحصر عبادة مريم العذراء خلالَ الشهر المريميّ في أوروبّا وحدها بل انتشرت في كلِّ مكان بفضل المُرسلين الكاثوليك من يسوعيّين وفرنسيسكان وبنديكتان ودومنيكان وكرمليّين فازدهرت في أميركا وآسية حتى بلغت الشرق الأقصى.
وانتشر تكريمُ مريم خلال شهر أيّار المُبارك في لبنان بفضل الأب سليمان أوستاف اليسوعيّ في بكفيّا وذلك سنة 1836، فكان في كلِّ يوم من أيّام شهر أيّار يجمعُ المؤمنين في معبد البتول الطاهرة أمام صورة سيِّدة النجاة يُصلّون السّبحة وطلبة العذراء ملقيًا عليهم عظةً يوميَّة في مزايا مريم وصفاتها الحميدة. ثمَّ انتقلت هذه العبادة لتشمل لبنان وسوريّا والأردنّ وفلسطين وبلاد ما بين النهرين والعراق.
وممّا ساعد على نشر هذه العبادة في بلادنا كتب الشهر المريميّ المطبوعة باللغة العربيَّة. صدر الأوّل منها في مطبعة انتشار الإيمان نحو سنة 1838 وكان معرِّبه حضرة الأب لباوس المتينيّ الراهب اللبنانيّ المارونيّ ووكيلهم في رومة العظمى. نقله عن كتاب الأب موزارلّي المذكور سابقـًا وكُرِّرَ طبعه مرّات عديدة. طُبع هذا الكتاب في القدس على يد الفرنسيسكان حارسي الأراضي المُقدَّسة سنة 1853. ثمَّ نشرته المطبعة الكاثوليكيَّة سنة 1876. وتكرَّرت طباعتُه بعد ذلك مرارًا.
وقد طُبعت في لبنان كتبٌ أخرى حول الشهر المريميّ. ففي سنة 1876 ظهر كتاب "اجتناء الأثمار من تكريس شهر أيّار" للأب اسطفان برساني عرَّبه من الإيطاليّة حضرة الأب يوسف الشبابيّ الراهب الحلبيّ اللبنانيّ المارونيّ وطبعه في المطبعة العموميَّة في بيروت. وفي السنة 1892 تولّى غبطة السيِّد أفرام الرحمانيّ تعريب كتابٍ آخر للشهر المريميّ نقله عن الفرنسيَّة ونشره في مطبعة المرسلين الدومينيكان في الموصل يتضمَّن تأمّلات في سيرة سيّدتنا مريم العذراء ومناقبها وأوصافها.
وفي بداية القرن العشرين نُشر كتاب الشهر المريميّ منقولاً من الفرنسيَّة بقلم الخوري بولس متّى طـُبعَ في مطبعة الأرز في جونيه. وتبعه حضرة الأب أفرام الديرانيّ أحد مدبِّري الرهبانيّة الحلبيَّة فطبع في سنة 1899 كتاب سعادة المغرم في عبادة مريم نقلاً عن الفرنسيّة وهو عبارة عن 31 تأمُّلاً في حياة العذراء وفضائلها تُتلى مساء كلِّ يوم من شهر أيّار.
ولا ننسَ كتابَ الكوكب الشارق في مريم سلطانة المشارق للأب لويس شيخو اليسوعيّ أودع فيه 31 خبرًا لكلِّ يوم من أيّام هذا الشهر المبارك.
أمّا السبب الذي حدا البيعة المقدّسة إلى اختيار شهر أيّار دون سواه لتكريم أمِّنا العذراء مريم فيعودُ إلى الحُبِّ الفائقِ الذي ربط المؤمنين بأمِّهم مريم العذراء منذ سالف العصور، إذ خصَّصوا لها كلَّ يوم بضعَ دقائق يُتلى فيها التبشير الملائكيّ، كما كرَّست الكنيسة يومًا واحدًا في الأسبوع لتكريم هذه الأمِّ السَّماويَّة (يوم السبت لدى اللاتين ويوم الأربعاء لدى الشرقيّين ولا سيّما الموارنة) لذلكَ كرَّسوا لها شهرًا كاملاً في السنة تُكرَّمُ فيه تكريمًا خاصًّا التماسًا لشفاعتها المقبولة عند ابنها الإلهيّ.
أمّا اختيارُهم شهر أيّار دون سواه فلأنّه أبهى أشهر السنة فيه تتجلّى الطبيعة بأبهى زينتها. فقدَّموا لمريم الزهور في شهر تكسو الحقول والبساتين أنواعٌ كثيرة منها. وهذه الزهور هي رمزٌ رائعٌ لما تتحلّى به هذه الأمُّ السماويَّة من فضائلَ وميزاتٍ لا تُضاهى.
وبعد الاحتفال بذكرى قيامةِ المسيح من بين الأموات في شهر نيسان، تنظرُ الكنيسة إلى أمِّ المخلّص وترفعُ إليها الشُّكران طوال شهر أيّار على عطيَّتها الفائقة الوصف، إذ أعطتِ العالمَ المخلّصَ فتجسَّد من حشاها وصار إنسانًا لفداء البشريَّة كلّها.
ولكنَّ هذا التكريمَ الخاصَّ لمريمَ العذراء في شهر أيَّار لم يتوقـَّف عنده بل انتقلَ ليضُمَّ إليهِ شهر آب لمناسبة عيدِ انتقالِها المجيد إلى السماء، وشهر تشرين الأوّل شهر ورديَّتها المقدَّس. لكنَّ شهر أيّار يبقى هو الأبرز بين هذه الأشهر، كما هو الحال بالنسبة إلى شهر آذار الذي يُكرَّم فيه القدّيس يوسف، وشهر حزيران المُكرَّس لعبادةِ قلب يسوع الأقدس.
تكريمُ مريم العذراء أو التعبُّدُ لها أو حتّى عبادتُها هو تكريمُ أمٍّ سماويّة قبلتْ بملء حرِّيتها أن تكون أمَّ ابنِ الله، فأخذ جسدًا منها وصار إنسانًا من لحمِها ودمِها، فتقدّست به وتنقّت منذ تكوينها وظلّت طوالَ حياتِها بتولاً قدّيسة لم تعرِف الخطيئة ولا الشرّ، بل كانت "ممتلئة نعمة"، كلّها جميلةٌ ولا عيبَ فيها. فحُقَّ لها الإكرامُ طوالَ أيّام السنة هي التي "تُطوّبها جميعُ الأجيال لأنّ القديرَ صنعَ بها عظائم".
"مريم العذراء في الأناجيل"
الخوري أنطوان الدويهيّ