روحانيته «مار أنطونيوس

 

 

لقد تدرّج القدّيس أنطونيوس في الكمال وتتطوّر اختباره الرّوحيّ يومًا بعد يوم وسنة بعد سنة في التعرّف على المسيح والاتّحاد به. تابع القدّيس أنطونويس هدف دعوته من البداية حتّى النّهاية ولم يشح بنظره مرّة عن هذا الهدف.

 

شقّ طريق اختبار الحياة الرّهبانيّة بعيشه حسب منطق دعوته: حيويّة داخليّة، نشاط روحيّ موحّد ومتواصل، وعيٌ دائم للمسيح الذي من أجله ترك كلّ شيء. لم يكن له قانون يسير عليه، ولم يسنّ هو قانونًا للرّهبان بعده. بقي اختباره الصّافي أروع نظام وقانون لكلّ نفسٍ أحبّت أن تسلك السّيرة الرّهبانيّة. إذا نحن لم نتشبّه بمثل هذا الاختبار الباطنيّ، ولم نشعر بمثل هذه الحيويّة الروحيّة، ولم نحس بنوعٍ من التدرّج في معرفة الله، فعبثًا نسير وفق نظام خارجيّ، وعبثًا نعمل على صياغة قوانين جديدة.

 

وإذا بتلك البادية المُقفرة تتحوّل بفضل اختبار القدّيس أنطونيوس إلى واحات للعبادة والصّلاة والمحبّة منبت للقيم المسيحيّة الإنجيليّة الرهبانيّة الخالدة. لقد نمت في البريّة "الصّلاة المستديمة" وقد دعا القدّيس أنطونيوس إليها تتميمًا لصلاة الفجر فأضحت صلاة الرّهبان في كلّ وقت وفي كلّ مكان. من علامات سُكنى الرّوح القدس في الرّاهب، المواهب الروحيّة والحضور للبشر والصّلاة المستديمة.

 

كانت تعاليمه مشبعة بالمزامير والأناجيل واالرّسائل... فقد تأمّلها وأدمجها في حياته حتّى استطاع أن يستشهد بها مغذّياً زوّاره وتلاميذه. "عليكم بالإنجيل! فهو غذاؤكم المُحيي بعد جسد الربّ، ثمّ عليكم بسائر الكتب المُقدّسة حفظًا وترديدًا وتأمّلاً". لم تنحصر صلاة القدّيس أنطونيوس في قراءة الكتاب المقدّس وتلاوة المزامير بل كانت صلاةً من أجل الكنيسة والبشر.  كانت صلاته علامة حضوره للبشر وتشفّعه من أجلهم.

 

كان يحرّض الجميع على كسب الفضائل.  يطلب من تلاميذه أن يستهدوا بهدي مَن سار قبلهم في طريق الصّلاح وأن يكونوا كالنّحلة الناشطة لا تختص بزهرة واحدة بل تتنقّل بين الأزهار التي تأخذ مادّة الشّهد من غيرها حتى تُخرج العسل اللّذيذ.

 

التواضع والطاعة أولى درجات الحياة الروحيّة. التواضع أمام الجميع والطاعة لبعضهم البعض ولاسيّما الرّؤساء، أولئك الذين اختارهم الله ليتحملّوا المسؤوليّات. الطاعة لهم دون تردّد ولا تحفّظ ولا نقاش والصّلاة من أجلهم بقدر مهامهم ومشاكلهم.

 

كان القدّيس أنطونيوس يُجادل فلاسفة عصره ويدعوهم إلى الإيمان لا بمنطق العقل وقياسته بل بمنطق حبِّ المسيح. "أنا المُثقّف بآلام سيّدي يسوع، المؤدّب بآداب الشّهداء والقدّيسين، المروّض بالابتهالات والتّأملات، لا أشعر بحاجة إلى محاوراتكم العقليّة وقياساتكم النّطقيّة وتفلسفكم على الخالق والمخلوق".

 

كان يدعو إلى التّفتيش عن الكنوز الخالدة فبدل كنوز الأرض الباليّة، يدعو إلى تحصيل الصّفات التي تؤهّل تلاميذه لنيل الكنوز الخالدة: الحكمة والبصيرة والقناعة والعدل والمحبّة الشّاملة مع رسوخ الإيمان بالمسيح الفائق كلّ شيء.

 

بعد انفصال أنطونيوس عن البشر لم يعودوا له حاجزًا يحول دون الاتّحاد بالله ممّا أدخله في علاقة جديدة بهم لم تعد تُعرقل حياته بالله. إذ كان يستقبل الزّوار المُتهافتين إليه والتلاميذ ويفيدهم ويُرشدهم. "أمّا مُعجزة أنطونيوس وهو مقيم في الجبل فهي أنّه يقظ القلب (تُجاه الناس) وكان الله يُظهر له ما يحدث للناس بعيدًا عنه". فحضوره للبشر لم يعد يفصله عن لقاء الله بعد مسيرة روحيّة تحرّريّة ونسكيّة إنفصاليّة، كما توحّده في البريّة لم يفصله عن البشر.

 

  • جوانب الحياة النسكيّة

تتمحور الحياة الرّهبانيّة حول ممارسة النسك. وللنّسك جانبان:

 

 أوّلاً: مقاومة الرّذائل

  1. مقاومة شهوة البطن عبر الصّوم والصّلاة: إنّ مقاومة الجوع وشهوة الأكل بمثابة "موت في كلّ يوم" يسمح للنّاسك بمشاهدة الإلهيّات.
  2. مقاومة النوم: من مظاهر التّقشفات النّوم على الأرض حتّى لا ينغمس الجسد والحواس في الملذات الطبيعيّة.
  3. مقاومة الأفكار الشريرة: كان القدّيس أنطونيوس يُقاوم الأفكار الجنسيّة الشّريرة بالإرادة والصّلاة. فكان ذكر اسم يسوع دواءً فعّالاً لطردها.
  4. مقاومة الضجر: إنّ الضّجر اختبار يختبره البشر عامّة وبشكلٍ خاصّ رهبان البرّية بسبب رتابة حياتهم. إنّ الضّجر حالة ملل وتشتّت فكر وقد سمّاه الكتاب المُقدّس شيطان الظهيرة. ولشدّة هذا الاختبار صاح القدّيس أنطونيوس: "كيف أخلص؟" فأجابه الملاك: إنّ الخلاص يكمن في المواظبة على الصّلاة والعمل.
  5. وحدة الجسد والرّوح: على الرّوح أن يروّض الجسد والنفس ترويضًا مستمرًّا ليحرّرهما من الرّذائل. فليس النسك إذلالاً للجسد والنفس بل هو ضبط لهما في سبيل انطلاق الرّوح.

 

 

ثانيًا: التّدريب على اكتساب الفضائل

  1. روحانيّة القلاية وحصن الدير: يعيش النسّاك في القلّايّة أو في داخل حصن أديرتهم مُقتدين في ذلك بأنطونيوس نفسه الذي عاش عشرين عامًّا من دون أن يخرج من منسكه. ترمز القلّاية إلى سِرّ ٍ يدور بين النّفس وربّها.
  2. ضبط النفس: لقد تيقّظ النّساك إلى ضرورة ضبط النفس ولاسيّما ضبط الحواسّ خاصّة الأفكار الشّريرة.
  3. عزيمة النفس: يقول أنطونيوس في هذا الصدّد "عزيمة النفس تقوى عندما تضعف ملذات الجسد".
  4. الاعتدال والاتزان: إن الاعتدال هو بمثابة القاعدة الذهبيّة في جميع التّقشفات والزّهد والنّسك وهذا ما عاشه القدّيس أنطونيوس. كان يظهر لزواره وقد اتّسم تعليمه سمة الاتّزان والاعتدال فقال "أفنى بعضهم أجسادهم بالنّسك ولكنّهم لعدم تمييزهم ظلّوا بعيدين عن الله".
  5. المثابرة: بقدر ما الحياة النسكيّة هي صيرورة مستديمة وجهاد دائم، كان أنطونيوس يبدأ حياته النسكيّة من جديد كلّ يوم... ويجتهد كأنّه يبدأ كلّ يوم.
  6. عدم الاضطراب: كان يدعو أنطونيوس تلاميذه لمقاومة الغضب. "فلنجاهد كي لا يطغى علينا الغضب". كان ذا نفسٍ هادئة وحواس غير مضطربة. حتّى أنّ جميع حركات جسده كانت تعكس حالته النفسيّة.
  7. اللّطف: إنّ اللّطف من خصائص المعاملة مع الآخرين وكان أنطونيوس يتحلّى بهذه الفضيلة التي كانت تجذب الناس عامّة والنّساك خاصّة، بل إنّ لطفه تجاوز البشر ليشمل الحيوانات أيضًا. فإن حبّ الإنسان للطبيعة يعلّمه حبّ الله ومن جهّة أخرى كانت الحيوانات قبل زلّة الإنسان ترى فيه وجه الله.