هل ملك الكون هذا هو ملك حياتي؟ «متفرقات

 

بمناسبة عيد المسيح ملك الكون واليوم العالمي للشباب على صعيد أبرشي ترأس قداسة البابا فرنسيس صباح الأحد القداس الإلهي في أبرشيّة أستي وللمناسبة ألقى الأب الأقدس عظة قال فيها من هذه الأراضي غادر والدي لكي يهاجر إلى الأرجنتين؛ وفي هذه الأراضي، التي أصبحت ثمينة بفضل المنتجات الجيدة للتربة ولاسيما بسبب الاجتهاد الحقيقي للناس، أتيتُ لكي أجد مجدّدًا نكهة الجذور. لكن اليوم، يعود بنا الإنجيل مرة أخرى إلى جذور الإيمان، الموجودة في أرض الجلجلة القاحلة، حيث بموتها، أنبتَت بذرة يسوع الرجاء: الذي إذ زُرع في قلب الأرض، فتح لنا الطريق إلى السماء؛ وبموته أعطانا الحياة الأبدية، ومن خلال خشبة الصليب حمل لنا ثمار الخلاص. لننظر إليه إذًا، إلى المصلوب.

 

 

 

على الصليب تظهر جملة واحدة فقط: "هذا مَلِكُ اليَهود". هذا هو اللقب: ملك، ولكن بالنظر إلى يسوع تنقلب فكرتنا عن الملك. لنحاول أن نتخيل ملكًا أمامنا: سيبادر إلى ذهننا رجل قوي يجلس على عرش مع شارات ثمينة، وصولجان بين يديه وخواتم متلألئة بين أصابعه، بينما يتوجّه إلى رعاياه بكلمات مهيبة. هذه، تقريبًا، هي الصورة التي لدينا في مخيِّلتنا. بالنظر إلى يسوع، نرى أن الأمر معاكس تمامًا. فهو لا يجلس على عرش مريح، بل هو معلَّق على خشبة؛ والإله الذي "حطَّ الأقوياء عن العروش" يعمل كعبد صلبه الأقوياء، تزيِّنه المسامير والأشواك فقط، وقد جُرِّد من كل شيء ولكنّه غنيٌّ بالحب، ومن عرش الصليب لم يعد يعلِّم الجموع بكلمته، ولم يعد يرفع يده ليعلِّم. بل يفعل أكثر من ذلك: لا يوجه أصابع الاتهام إلى أي شخص، بل يفتح ذراعيه للجميع. هكذا يُظهر ملكنا نفسه: بذراعين مفتوحتين.

 

 

 

خلال الدخول في عناقه فقط سنفهم: سنفهم أن الله قد ذهب إلى هناك، إلى مفارقة الصليب، لكي يعانق كل شيء فينا، حتى ما كان بعيدًا عنه: موتنا، آلامنا، فقرنا، هشاشتنا. صار خادما لكي يشعر كل فرد منا أنه ابن. سمح بأن يتعرض للإهانة والاستهزاء، لكي لا يبقى أحد منا بمفرده في كل إذلال؛ سمح بأن يُجرَّد من كلِّ شيء لكي لا يشعر أحد بأنّه قد جُرِّد من كرامته؛ لقد صُلِب على الصليب، لكي يكون حضور الله في كلِّ مصلوبٍ في التاريخ. هذا هو ملكنا، ملك الكون لأنه عَبَر أبعد حدود البشرية، لقد دخل في الثقوب السوداء للكراهية والترك لكي ينير كل حياة ويعانق كل واقع. أيها الإخوة والأخوات هذا هو الملك الذي نحتفل به! والسؤال الذي نطرحه على أنفسنا هو: هل ملك الكون هذا هو ملك حياتي؟ كيف يمكنني أن أحتفل به ربًّا لكل شيء إذا لم يصبح هو أيضًا رب حياتي؟

 

 

 

لذلك لنُثبِّت أعيننا على يسوع المصلوب. كما ترى، هو لا يراقب حياتك للحظة فقط، ولا يعطيك نظرة عابرة كما نفعل معه غالبًا، ولكنه يبقى هناك، بذراعين مفتوحتين، ليقول لك في الصمت أنه لا يوجد شيء فيك غريب بالنسبة له، وأنّه يريد أن يعانقك ويرفعك ويخلِّصك هكذا كما أنت، بتاريخك، وبؤسك، وخطاياك. يعطيك الإمكانية لكي تملك في الحياة، إذا استسلمت لحبه الوديع الذي يقترح نفسه ولا يفرضها، لحبه الذي يغفر لك على الدوام وينهضك دائمًا ويعيد لك على الدوام كرامتك الملَكيَّة. نعم، يأتي الخلاص من السماح له بأن يحبّنا، لأنه بهذه الطريقة فقط نتحرر من عبودية الـ "أنا"، ومن الخوف من أن نكون وحدنا، ومن التفكير في أننا لن ننجح. أيها الإخوة والأخوات، لنقف غالبًا أمام المصلوب، ولنسمح له بأن يحبَّنا، لأن هاتين الذراعين المفتوحتين تفتحان لنا الفردوس أيضًا، كما فعلتا "للص الصالح". لنسمع بأنَّ هذه العبارة موجهة إلينا، وهي العبارة الوحيدة التي يقولها يسوع اليوم من على الصليب: "سَتكونُ اليَومَ مَعي في الفِردَوس". هذا ما يريد الله أن يقوله لنا في كل مرة نسمح له بأن ينظر إلينا. وعندها سنفهم أنه ليس لدينا إله مجهول موجود فوق في السماء، قوي وبعيد، وإنما إله قريب، حنون وشفوق ذراعاه مفتوحتان تعزيان وتعانقان. هذا هو ملكنا!

 

 

 

أيها الإخوة والأخوات بعد أن نكون قد نظرنا إليه ماذا يمكننا أن نفعل؟ يضع إنجيل اليوم أمامنا طريقين. أمام يسوع هناك من يقف كمتفرِّج وهناك من يشارك ويلتزم. إنَّ المتفرجين كثيرون، الأكثريّة. في الواقع - يقول النص - "ووقَفَ الشَّعبُ هُناكَ يَنظُر". لم يكونوا أشخاصًا سيئين، وكثيرون منهم كانوا مؤمنين، لكنهم وقفوا يتفرَّجون لدى رؤيتهم للمصلوب: لم يقوموا بأيّة خطوة إلى الأمام نحو يسوع، بل نظروا إليه من بعيد، بفضول ولامبالاة، دون أن يهتموا حقًا، دون أن يسألوا أنفسهم ماذا يمكنهم أن يفعلوا. ربما يكونون قد علَّقوا، أو عبَّروا عن أحكامهم وآرائهم، وربما قد يكون أحدهم قد اشتكى، لكنهم جميعًا وقفوا ينظرون بأيد مكتوفة. ولكن حتى بالقرب من الصليب كان هناك متفرجون: رؤساء الشعب، الذين يريدون أن يشهدوا على المشهد القاسي لنهاية المسيح المخزية؛ والجنود الذين كانوا يأملون أن ينتهي الإعدام قريباً، وأحد المُجرِمَين الذي نفخ غضبه على يسوع. يهزؤون ويهينون ويطلقون العنان لغضبهم.

 

 

وجميع هؤلاء المتفرجين يتشاركون في لازمة، يكررها النص ثلاث مرات: "إِن كُنتَ مَلِكَ فخَلِّصْ نَفْسَكَ!" خلِّص نفسك، أي عكس ما يفعله يسوع، الذي لا يفكر في نفسه، بل في تخليصهم. لكن الـ "خلِّص نفسك" يعدي: من الرؤساء إلى الجنود إلى الناس، لقد بلغت موجة الشر الجميع تقريبًا. وهي موجة متفشية تنتقل بواسطة اللامبالاة، لأن هؤلاء الأشخاص يتحدثون عن يسوع ولكنهم لا يتناغمون مع يسوع ولو حتى للحظة؛ إنها عدوى اللامبالاة القاتلة. إنَّ موجة الشر تنتشر هكذا على الدوام: تبدأ بالابتعاد، وبالنظر بدون فعل أي شيء، وعدم الاهتمام، ثم يبدأ المرء في التفكير فقط في ما يثير اهتمامه، ويتعوَّد بعدها على الالتفات إلى الجهة الأخرى. إنه خطر أيضًا على إيماننا، الذي يذبُل إذا بقي مجرّد نظرية ولم يصبح ممارسة، إذا لم يكن هناك مشاركة والتزام، وإذا لم نبذل ذواتنا وإذا لم نخاطر. فنصبح مسيحيين سطحيين، يقولون إنهم يؤمنون بالله ويريدون السلام، ولكنهم لا يصلون ولا يعتنون بالقريب.

 

 

 

هناك أيضًا موجة الخير الصالحة. من بين العديد من المتفرجين، يتدخل أحد الأشخاص، "اللص الصالح". كان الآخرون يضحكون على الرب، أما هو فكان يكلمه ويدعوه باسمه: "يسوع"؛ كثيرون صبّوا عليه غضبهم، أما هو فاعترف للمسيح بأخطائه. كثيرون قالوا له "خلّص نفسك"، أما هو فصلّى: "يا يسوع، اذكرني". وهكذا أصبح اللص أول قديس: اقترب من يسوع للحظة واحتفظ به الرب معه إلى الأبد. يحدثنا الإنجيل الآن عن اللص الصالح لكي يدعونا للتغلب على الشر بالتوقف عن البقاء متفرجين. ومن أين نبدأ؟ من الثقة، من أن ندعو الله باسمه، تمامًا كما فعل اللص الصالح، الذي وجد في نهاية حياته الثقة الشُّجاعة للأطفال الذين يثقون ويطلبون ويصرون. وبكل ثقة يعترف بأخطائه، ويبكي ولكن ليس على نفسه، وإنما أمام الرب. هل لدينا هذه الثقة، هل نقدم ليسوع ما بداخلنا أم أننا نتنكر أمام الله، وربما بقليل من القداسة والبخور؟

 

 

 

 

إن الذي يمارس الثقة يتعلم الشفاعة، ويتعلم أن يقدم لله ما يراه، وآلام العالم، والأشخاص الذين يلتقي بهم؛ وأن يقول له مثل اللص الصالح: "اذكر يا رب!". نحن لسنا في هذا العالم لكي نخلِّص أنفسنا فقط، وإنما لكي نحمل الإخوة والأخوات إلى حضن الملك، إن التشفُّع، وتذكير الرب، يفتحان أبواب الفردوس ولكن هل نتشفع عندما نصلي؟ أيها الإخوة والأخوات، اليوم ينظر إلينا ملكنا من على الصليب بذراعين مفتوحتين. ويتعلّق الأمر بنا بأن نختار ما إذا كنا متفرجين أو مشاركين. نحن نرى أزمات اليوم، تدهور الإيمان، غياب المشاركة. وماذا نفعل؟ هل نتوقف عند إطلاق النظريات، أو الانتقاد، أو نشمِّر عن سواعدنا، ونأخذ الحياة بأيدينا، وننتقل من "لو" التبريرات إلى "نعم" الصلاة والخدمة؟ جميعنا نعتقد أننا نعرف ما هو الخطأ في المجتمع، وفي العالم، وكذلك في الكنيسة، ولكن هل نفعل شيئًا؟ هل نلتزم بشجاعة مثل إلهنا الذي سُمِّر على الصليب أم نقف وأيدينا في جيوبنا ونراقب؟ اليوم، بينما يزيل يسوع، المجرّد من كلِ شيء على الصليب، كل حجاب عن الله ويدمر كل صورة زائفة لمُلكه، لننظر إليه لكي نجد الشجاعة لكي ننظر إلى أنفسنا، ونسير في دروب الثقة والشفاعة، ونجعل من أنفسنا خدامًا لكي نملك معه.

 

 

 

إذاعة الفاتيكان