نحن آمنّا وعرفنا أنّك قدّوس الله‎ «متفرقات

نحن آمنّا وعرفنا أنّك قدّوس الله‎



 "لا تعملوا للقوت الفاني، بل اعملوا للقوت الباقي للحياة الأبديّة. هذا القوت يهبه لكم ابن الإنسان، لأنّ الله الآب ختمه بختمه" (يو 6: 27). يظلّ بحث الناس، ونحن منهم، عن خبز البطن. فالجوع إلى المأكل والملبس، إلى النّجاح والتقدير، إلى النضارة والصحة، يرهب الإنسان لأنّه يذكّره بحدوده وهشاشته، ويلوّح له بالموت. لذا لا يحتمل الإنسان الجوع لما يحمله من تهديد وترويع، ويعتقد أنّ حياته تكمن في تلبية الحاجة إلى الخبز وحسب.


وإذ يعرف يسوع قلب الإنسان، ويحبّه حبًّا شديدًا، فأنّه يريد أن يشبع قلبه دون أن ينكر حاجة البطن. وما يرغب فيه القلب هو الحبّ والأمان، الشّعور بالبنوّة والإنتماء، والإبن الأوحد الذي في حضن الآب هو مَن يعلن عنه ويردّ على نداء القلب (يو 1: 18).


فكما يقول القدّيس أوغسطينوس: "لقد خلقتنا لك، ولن يرتاح قلبنا حتى يستقرّ فيك". والحبّ ليس أقوال فقط بل في الأعمال قبل كلّ شيء، ولكي يعبّر الآب عن حبّه أبناءَه البشر، وهبهم إبنه الحبيب ليقودهم نحو قلبه. والإبن الحبيب، إذ يعرف أنّ الآب جعل كلّ شيء بين يديه، وأنّه من الآب خرج وإلى الآب يعود (يو 13: 3)، يهب ذاته وحياته للبشر إخوته، يعطيهم الخبز الحقيقيّ النّازل من السّماء (يو 6: 32).


ولا يمكن أن تكمن حياتنا في الخبز فحسب، بل في قبولها من يديّ الآب، وما يمنحنا الآب هو ابنه الحبيب الذي يجعلنا أبناءً معه وإخوة له. هذا هو سرّ حياتنا، فرح القلب وسلامه، أساس وجودنا ومعنى بشريّتنا وبهاؤها. نحن شركاء الله، ورثة ملكوت الحبّ والحياة، أبناؤه الأحبّاء حبًّا لا نهاية له.


ويسوع وحده هو مَن يردّ على رغبة قلب الإنسان في الحبّ والحياة، ولا يمكن الإنسان أن يعرف معنى الحياة إلا في يسوع. والحياة عطاء، مشاركة، تواصل، بذل للذات، ويسوع لأنّه الحبّ والحياة، فأنّه يهب البشر كلّ ما له وعنده، جسده ودمه.


ولكنّ الإنسان لا يحتمل الحبّ، لأنّ الحبّ يجعله ينتظر الحياة من الحبيب، يحوّله إلى طفل في حضن أمّه. ويريد الإنسان أن يكون مستقلًّا، كبيرًا، غير معتمدٍ على أحد، يقود حياته ومصيره كما يشاء. والحبّ يأخذه في مسار آخر، عكس تيار الثقافة الشائعة في ما بيننا نحن البشر.


إذا أردنا أن نكون بشرًا حقًّا، أحياءَ، نعرف طعم الفرح والسّلام، لا خيار لنا إلا الحبّ. ويعني لنا الحبّ أنّنا نعيش بنعمة يسوع الذي يبذل حياته، يهب جسده ودمه لنا، يموت حبًّا فينا ومن أجلنا.


بالطبع "هذا كلام عسير، من يطيق سماعه" (يو 6: 60). كلام صعب على الكثير من تلاميذ يسوع بالأمس واليوم، غريب بل مرفوض من العديد من الناس حولنا. ونحن لا يمكننا أن نعرف معنى الحبّ والحياة إلا بهبة من الله الآب، هو من يمنحنا روحه القدّوس، ذاك الذي أنعش قلب ابنه الحبيب يسوع. طعام الجسد لا يجدي نفعًا، لأنّ القلب هو نبع حياتنا، ولا يشبع القلب سوى روح الله. والكلام الذي يكلّمنا به يسوع هو روح وحياة.


ولا يمكن أن نمسك بالرّوح، بل أن نؤمن به ونتبعه. في الإيمان بالحبّ نلقي بذواتنا تمامًا في حضن من يحبّنا، نسمع صوت روحه القدّوس، ونحن لا ندري من أين يأتي وإلى أين يذهب (يو 3: 8)، ولكن كلّنا يقين أنّه يقودنا إلى الفرح والنّور والحياة، يعلّمنا سرّ الحبّ.


الحبّ أساسه الحرّيّة، هو دعوة من قلب الآب للأبناء والبنات، وينتظر الحبيب أن يرد المحبوب بحرّيّة. الآب هو الرّاعي الصّالح، معه ندخل ونخرج ونجد مرعى (يو 10: 9)، لا يستولى علينا بحبّه ولا يأسرنا به، بل برقّة ولطف وعذوبة يدعونا إلى الفرح والحياة. فلمَن نذهب إذًا، وكلام الحياة الأبديّة عند يسوع؟ في حضنه نرتمي، من حبّه نرتوي، بنوره نعاين النّور، وبنعمته نعرف طعم الفرح. نعم يا يسوع، نحن آمنّا وعرفنا أنّك قدّوس الله.


الأب نادر ميشيل اليسوعيّ