مريم في تاريخ الخلاص «متفرقات

 

 

على ضوء بشارة الملاك جبرائيل كما يرويها الإنجيليّ لوقا (1: 26- 38). يطرح عادةً هذا النصّ ثلاث تساؤلات:

 

1- لماذا الحبل... إلهيّ؟

 

2- لماذا الولادة... عجائبيّة؟ 

 

3- لماذا مريم... دائمة البتوليّة؟ 

 

قد تكون هذه التساؤلات سهلة والردّ عليها واضحًا... غير أنّ معظم الأحيان تبقى الإجابة غير دقيقة وغير علميّة: لذا سنحاول، في مرحلة أولى، أن نعالجها إنطلاقًا من المحيط الثقافيّ والدينيّ الذي نشأت فيه العذراء. سنأخذ من هذا التوضيح، في مرحلة ثانية، عبرة لحياتنا الروحيّة.

 

1- لماذا الحبل... إلهيّ ؟

 

عند بشارة الملاك لها بأَنها ستحمل وتلد ابنًا، قالت مريم: "كيف يكون هذا وأنا لا أعرف رجلًا؟". فأوضحَ لها الملاك: "إنّ الروح القدس سينزل عليك وقدرة العلي تظلّلك...". ماذا يعني هذا التصريح؟

 

سبق أن حبِلت نساءٌ في العهد القديم (طاعنات في السنّ أو عواقر) بطريقة عجائبيّة: سارة، رفقا، حنّة، أليصابات،... لكنّ الحَبَل كان من خلال وِساطة بشريّة. أما بالنسبة إلى مريم فكان الحَبَل "إلهيًّا"، بواسطة الروح القدس، وبدون أي وِساطة بشريّة . لذلك حَمَلَ جنينُها طبيعتَين: إلهيّة وإنسانيّة: من أَب، هو الله – ومن أُمّ، هي مريم العذراء. على اختلاف سائر النساء اللواتي حملن ابنًا يتمتّع بطبيعة إنسانيّة فقط، إنّ الحبل الإلهيّ بالروح القدس سيثبّت أن هذا الجنين هو في الوقت ذاته إلَه وإنسان: "... لذلك يُدعى إبن الله". 

 

2- لماذا الولادة... عجائبيّة ؟

 

يقول الملاك لمريم: "لذلك، المولود منك قدّوسًا (حرفيًّا: "قُدسيًّا") يُدعى ابن الله". يُوضّح القدّيس لوقا في هذه الآية أنّ الولادة ستكون "بطريقة مقدّسة" وليس الحبل مقدّسًا فقط... !

 

إذا كان الحبل إلهيًّا، أيّ دون تدخّل بشريّ، فما الهدف إذًا أن تكون الولادة أيضًا عجائبيّة؟ بكلام آخر لماذا لم تلِد مريم كسائر النساء، بل حافظت على عذريّتها أثناء الولادة؟ لا بدّ أن نعود هنا، في ما يخصّ هذا الموضوع، إلى مفهوم العهد القديم.

 

في المعتقد اليهوديّ، إنّ سَيَلان الدمّ الذي يصحب المرأة عند الولادة يجعلها هي وابنها في حالة تلوّث، وتصبح، بحسب الشريعة، هي وابنها بحاجة إلى تطهير (سفر الأحبار12: 1-5). فالحياة تكمن في الدمّ، وبما أنّ الحياة ملك الله فإراقته محرّمة. لأنّ إراقة الدمّ تُذَكّر بخطيئة آدم الذي طُردَ من الجنّة واضطر أن يقتل (الحيوان) ليعيش: لذلك يُعتبَر سيلان الدمّ مُدنّسًا. من هذا المنطلق نفهم كيف مريم بقيَت عذراء أثناء ولادة يسوع (أي لم يصحَبها سيَلان دمّ)، إذ لا يمكن أن يولد المسيح في محيط مُلوَّث، وأن يكون، وهو إلَه، بحاجة لتطهير؟
 

 

3- لماذا مريم... دائمة البتوليّة ؟

 

كثيرًا ما يُطرَح السؤال التالي: لماذا لم تُنجِب العذراء أولادًا آخرين... أو لماذا بقِيَ يسوع دون إخوة ؟ خاصةً أنّ "الأسرة الكبيرة" هي مُباركة عند الله؟ يأتي الجواب سهلًا عامّةً: لأنّ العذراء كرّست حياتها كلّها لابنها، ولم تستطع أن تكون إلاّ وَفيّة لهذه الرسالة؛ إلخ...   قد يكون الجواب منطقيًّا، لكنّه لا يعالج النقطة الأساسيّة المطروحة هنا، والمرتبطة بمفهوم العهد القديم "للتكريس".

 

بحسب التقليد الربّاني، وأيضًا "الشرع النبويّ"، كلّ شخص يختبر ظهورًا أو تجليًّا إلهيًّا لا يمكنه أن يعود من بعد إلى حياته السابقة: أصبح كليًّا مكرّسًا لله. على سبيل المثال، يفيدنا مرجع من "التَلمود" (تفسير يهودي قديم للشريعة) أن موسى النبي، عندما تجلّى الله أمامه في العليّقة المشتعلة (خروج 3: 1-6)، أصبح كليًّا مكرّسًا لله، ولم يعُد له الحقّ بعد ذلك "بالعودة" إلى امرأته.

 

أيضًا مريم، عاشت، أثناء بشارة الملاك، تجلّيًا إلهيًّا: "كالعليقة المشتعلة" التهبَت أحشاؤها بالروح القدس. فلم يعُد باستطاعتها أن "تلتقيَ" بخِطّيبها، حتّى ولو كانت عندها النيّة بذلك، لأنّها أصبحت، من تلك اللحظة، مُكرّسة نفسًا وجسدًا لخدمة الله. "أنا أمة الربّ، فليكن لي بحسب قولك".   من خلال هذه "النَعَم الأبديّة" التي لفظتها، كرسّت مريم ذاتها كليًّا لله، فلم "تعرف" رجلًا طيلة أيّام حياتها.

 

في ضوء ما سبق، نستطيع القول إنّ مريم رفعت، بإيمانها العظيم، ثلاث تحدّيات، وهي تعلّمنا اليوم كيف نرفعها نحن أيضًا، في حياتنا اليوميّة. 

 

1-    "الحَمْل" الداخلي...

إنّنا مدعوّون نحن أيضًا إلى أن نعيش "حَمْلًا روحيًّا": وهذا يعني أن "نَحمِلَ" في داخلنا مشروع الله الخاصّ لنا من دون أيّ تدخّل بشريّ: أي دون أفكار ومصالح شخصيّة قد "تُجهِض" مشروع الله الخلاصيّ فينا.

 

2- "الولادة" العجائبيّة...

إنّنا مدعوّون إلى أن نُوَلِّد أيضًا هذا المشروع دون تلّوث: يعني أن نسعى إلى تحقيقه بكلّ إخلاص. قد نعرف ماذا يريد الله منّا (زواج، تكريس، مهنة، سفر، إلخ...)، لكنّ ليس من السهل دائمًا أن ننفّذ ما يريده منّا دون خطأ.

 

  3- "البتوليّة" الدائمة...

لا يكفي أن نعرف ما هي مشيئة الله في حياتنا؛ كما لا يكفي أن نحقّقها وحسب. بل يجب أن نستمرّ في تحقيق هذا المشروع بكلّ صدق طيلة أيّام حياتنا، وهذا يعني ألاّ تدخُل فيه أو تشوّهُهُ مشاريع أخرى ودنيويّة . نحن مدعوّون، إذًا – على مثال مريم العذراء – أن نعيش "عُذريّة روحيّة" في حياتنا، وهذا يعني:

 

- أن "نَحمِلَ" المسيح في داخلنا

 

- وأن"نوّلده" بأمانة

 

- وأن "نستمرّ" كلّ يوم في هذا التوليد، بصدق ووفاء.  

 

يا بــتولًا  حـكـيـمـة... تضرّعي لأجلنا !

 

الأب سمير بشارة اليسوعيّ