لكي تدركوا إلى أيّ رجاء دعاكم «متفرقات



لكي تدركوا إلى أيّ رجاء دعاكم



كم هي عصريّة صلاة بولس لسامعيه: "حين أذكركُم في صَلَواتي وأسأل إِلهُ رَبِّنا يسوعَ المسيح، أَبا المَجْد، أن يهب لكم رُوحَ حِكمَةٍ يَكشِفُ لَكم عَنه تَعالى، لِتَعرِفوه حَقَّ المَعرِفَة، وأَن يُنيرَ بَصائِرَ قُلوبِكم لِتُدرِكوا إِلى أَيِّ رجاءٍ دَعاكم". (أف17/1-18).


في الكتاب المقدّس تظهر معرفة الله على أنّها أعظم ما يمكن أن يتوق إليه الإنسان. والمقصود بالمعرفة العلاقة لا الأفكار فحسب. كما يقول هوشع: "أريد رحمة لا ذبيحة، معرفة الله أكثر من المحرقات" (6: 6)، ويعد إرميا: "جميعهم سيعرفونني من كبيرهم إلى صغيرهم" (31: 34)، ويؤكّد أشعيا: "لأنّ الأرض تمتلئ من معرفة الله كما تملأ المياه البحار" (11: 9).


فمعرفة الله تحقّق في الإنسان خلاصه من العنف. هذا مقصد أشعيا في نبوءته المذكورة: "لا يسيئون ولا يفسدون... لأنّ معرفة الله تملأ الأرض...". الخلاص من العنف هو ما أتى به المسيح. فكما يكتب يوحنّا الرّسول في رسالته الأولى: "نحن نعلم أنّنا انتقلنا من الموت إلى الحياة لأنّنا نحبّ الإخوة ... لا مثل قايين الذي ذبح أخاه..."1يو (3: 14 و12).


ما العلاقة بين معرفة الله وعنف الإنسان؟ يخبرنا الكتاب أنّ أصل العنف هو الحزن واليأس. فبقول كتاب الحكمة في الفصل الثاني إنّ الذين ينصبون العداء للإنسان البارّ "فكّروا في نفوسهم تفكيرًا خاطئًا فقالوا قصيرة حزينة حياتنا...".


في الواقع، إن لم تستنر بصائرنا بمعرفة الله، وإن لم نعِ الرّجاء الذي دُعينا إليه، نبقى أسرى اليأس. في زوايا وعينا العميق، نشعر أنّ واقعنا سجن لنا. كم مرّة نقول أو نتصرّف كما لو أنّ "كلّ مين خلق علق"؟ ألا نلعن أحيانًا وجودنا ونشتهي العدم الذي أخرجنا الله منه؟ ألا نسأل في سرّنا إن لم يكن خيرًا لنا لو لم نولد؟


نلوم الله سرّيًّا أنّه لم يتمّ عمله إذ خلقنا، أنّه جنى علينا، ونخشى أن نصرّح بذلك فنلوم الآخرين ونلوم الظّروف ونلوم أنفسنا، فنشعر بالظلم تارةً وبالذنب تارةً أخرى، وتتقاذفنا الأفكار والمشاعر، ولا نجد من يفهمنا، فنجرح بالكلام أو بالأفعال... أقلّه بالأفكار، وتفتر محبّتنا ويكثر بيننا سوء التواصل. والعنف نتيجة سوء التواصل حين لا نصبر عليه.


نعايش أحداثًا دامية، أو نسمع عنها قريبة أم بعيدة... ننتقد الزّعماء ونلوم الأديان ونحتقر البشر... في حين أنّ جذور الموت في قلوبنا، لأنّنا لا نعرف الله ولا الرّجاء الّذي يهبه لنا. ما رسالة المسيح سوى في معرفة الله. "الله لم يره أحد قطّ" فمن يخبر عنه؟ "الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو أخبر عنه." (يو 1: 18)


صحيح أنّ الله يكشف عن نفسه بطرق عديدة منذ أيّام الآباء والأنبياء، ولكن أيّ كلمة تقول من هو الله؟ أيّ كلمة يلقيها إلى نبيّ تحقّق فينا رجاء دعوتنا؟ حين يعطي الله الكشف عن ذاته لنعرفه "حقّ المعرفة" كما يقول بولس، لا يلقي كلمة إلى نبيّ، بل كلمته نفسها تصير النبيّ. "الكلمة صار بشرًا وسكن بيننا"، كشجرة مغروسة في أرضنا، لتغلب يأسنا وتنير ظلمة أذهاننا، فنعرف الرّجاء الذي دُعينا إليه.


لن تدرك الظلمات النّور الذي فيه حياة الناس، وكلمة الله تنجح في ما أُرسلت إليه كما يشرح لنا أشعيا (55: 11)، حتّى وإن كان ابن الله مرفوضًا في العالم الذي كوّن به ولأجله. لأنّ الذين يقبلونه يصيرون أبناء الله وبناته. حبّة الحنطة لن تبقى وحدها، بل تثمر لتشبع... "لتؤتي الزّارع زرعًا والآكل طعامًا" (أشعيا 55: 10). فكلمة الله ما زالت بيننا، في الناس الذين يقبلونها، لأنّهم أدركوا... أو بدأوا يدركون... الرّجاء الذي إليه دُعوا.


الأب داني يونس اليسوعيّ