كيف صارت الخاطئة إنجيلاً؟ «متفرقات




كيف صارت الخاطئة إنجيلاً؟


يجمع التقليد المسيحيّ على الأقلّ منذ القرن الخامس، في أيّام البابا القدّيس غريغوريوس الكبير، بين ثلاث شخصيّات هي مريم المجدليّة، والمرأة الخاطئة التي غسلت بدموعها رجليّ يسوع (لوقا 7)، ومريم أخت لعازر التي طيّبت يسوع قبل الفصح بستّة أيّام (يوحنّا 12).



لا شيء يدلّ على صحّة هذا الجمع، ومع ذلك تبقى مريم المجدليّة في ضمير المسيحيّين تلك التي أخرج منها الرّبّ سبعة شياطين (لوقا 8: 2)، فسارت معه بين التلاميذ، وكانت حاضرة أمام الصّليب، وحملت الطيب لإكرام المسيح في قبره، فإذا به حيّ، يحمّلها طيب الخبر السّار لتعود به إلى التلاميذ، لتصير رسولة الرّسل.


لا ضرر إن أبقينا على تقليد البابا غريغوريوس، لأنّه يعيننا على الدّخول مع المجدليّة في سرّ معرفة المسيح. كيف صارت الخاطئة إنجيلاً؟ لمَ اختارها الله لتكون أوّل من فاه بهتاف الفصح: "رأيت الرّبّ"؟ ألأنّها "أحبّت كثيرًا، وغُفر لها الكثير"؟ ألم تبدأ القيامة فيها حين اختبرت حبّ الله الذي يحرّر حبّها من قيود الخوف والشهوة؟ ألم تكن جاهزة لتفهم، قبل غيرها، قوّة الغفران التي في المسيح؟


سأتوقّف على حادثة سكب الطيب على يسوع في بيت عنيا، فهي تحتوي سرّ المجدليّة. بحسب إنجيل يوحنّا، المرأة التي سكبت الطيب هي مريم أخت لعازر. سكبت الطيب على رجليّ يسوع ومسحته بشعرها، كما في حادثة المرأة الخاطئة في لوقا (7: 36-50). في الحالتين لم يفهم الحاضرون مغزى ما حصل.


أمّا إنجيل مرقس فيخبرنا أنّ المرأة "كسرت القارورة" وأفرغت محتواها على رأس يسوع، وعبق الطيب في البيت. إذّاك تململ التّلاميذ قائلين: لِم لم يُبَع هذا الطيب ويُعطى ثمنه للفقراء؟ كثيرًا ما يكون هذا السؤال سؤالنا.


أمام حبّ متدفّق نشكو من ضعف حبّنا فنهرب بالأفكار وبالانتقاد. ظاهريًّا المنطق سليم: أليس إكرام الرّبّ أعظم حين نكرّم الفقير؟ ولكنّ مريم فهمت ما لم يفهمه التّلاميذ، والرّبّ أثنى على عملها: قامت مريم بحركة نبويّة وطيّبت جسد الرّبّ سالفًا للدفن، وكـأنّها فهمت أنّ حبّ الرّبّ سيقوده إلى الموت، إلى الهدر كما يُهدر الطيب، وكأنّها فهمت أنّها لن تستطيع تطييب جسده بعد الموت لأنّ حبّه أقوى من الموت، وكأنّها فهمت أنّ طيب حبّه سيملأ المعمورة كما ملأت رائحة الطيب البيت حيث كان الرّبّ: "حيثما تُعلن البشارة في العالم كلّه يُحدّث أيضًا بما صنعت هذه، إحياء لذكرها" (مرقس 14: 9).


فهمت مريم ما لم يفهمه الرّسل. فهمت أنّ الحبّ لا يُقاس بالحسابات الضيّقة بل يُبادل بالحبّ. فهمت أنّ الحبّ لا يقوم على الإنجازات بل على بذل الذّات. فهمت أنّ منطق الحبّ هو منطق الخصوبة لا منطق الفعاليّة.


ألم يكن أفضل للفقراء والمرضى أن يمشي يسوع إلى اليوم في قرانا يشفي ويعلّم ويقيم الموتى ويطرد الشياطين؟ لماذا يقول إذًا: خير لكم أن أمضي؟ لم يعدنا بأنّ أعمالنا ستفوق أعماله؟ (يوحنّا14: 12 و16: 7). "إنّ حبّة الحنطة التي تقع في الأرض، إن لم تمت تبقَ وحدها، وإن ماتت، أخرجت ثمارًا كثيرةهذا هو منطق الخصوبة، منطق الرّبّ الذي فهمته مريم قبل كلّ الرّسل.


"اسمك طيبٌ مراق" هكذا تقول الحبيبة في نشيد الأناشيد، في بدايته، وفي الختام تقول: "أهرب يا حبيبي، وكن كالظبي، كشادن الأيّلة، على جبال الأطياب". هكذا المجدليّة أمام القائم من الأموات يقول لها: لا تمسكيني، إنّما اذهبي إلى إخوتي وقولي لهم إنّي صاعد إلى أبي وأبيكم، إلهي وإلهكم. هذا ما قالته حاملة الطيب، حين سكبته على يسوع، وبعد أن سكب يسوع روحه علينا. كانت أوّل من فهم، فصارت أوّل من بشّر، لأنّها أحبّت كثيرًا.


الأب داني يونس اليسوعيّ