كيف أصلي؟ «متفرقات





كيف أصلي؟



بدون صلاة وقراءة متواصلة للكتاب المقدّس ليس من حياة مع الله. فإنّ الحياة التي يجريها فينا لقاؤنا مع المسيح، وما تُنَمّيه فينا قراءة الكتاب المقدّس، يتعرّضان للموت ولا يؤتيان أيّة ثمار ما لم تواكبهما الصلاة.


فهي وحدها تمنع الشّيطان من استئصال الكلمة المزروعة في قلوبنا (مرقس 4: 14). 


الصلاة تجعل الكلمة تتجذّر فينا، نحن الذين لا نطيق سماعها إلا لبرهة. وهي التي تُبعد عنّا هموم العالم، فلا يعود يُبهِرُنا الغنى، ولا تستهوينا قِنيات العالم "التي تخنق فينا الكلمة". 


الصلاة هي القادرة على إستصلاح الأرض، التي هي نحن؛ وهي تكسبها خصبًا، وتجعل الكلمة تُثمر فينا.


الخطيئة هي ما يفصلنا عن الله؛ أمّا الصلاة فهي التي تجعلنا نقيم معه.


الصلاة هي التي تقرّبنا من الله وترقّينا إليه، وتحوّل إليه وجهنا، وتجعلنا نقيم فيه ومعه وفي عمق ذاته وبقربه، بفعل تسليم كلّيّ لإرادته. الخطيئة هي ما يجعل منّا أن نكون محور ذواتنا. أمّا الصلاة فهي بالعكس، تجعل منه تعالى محور حياتنا. قد أقصد وأسعى، حتى يوم الحساب، بألّا أجعل من ذاتي محور حياتي، ولكن باطلاً، ما لم تسعفني الصلاة. لأنّه بمقدار ما أسعى لوحدي نحو هذه الغاية، بمقدار ما أهتمّ بذاتي وأجعلها محور سعيي وغايتي وهدفي.


وحدها الصلاة تجعل الله محور حياتي وغاية وجودي، وحدها المحبّة تُركّز الله والقريب في صميم توجهاتي. وحدهما (الصلاة والمحبّة) يمكنهما أن يصنعا هذه المعجزة، أي صرف النظر عن عبادة الذات.  والصلاة هي الينبوع الذي منه نرتوي، والمصدر الذي نستمدّ منه القوّة التي يمدّنا الله بها. "أوصد بابك، وصلِّ لأبيك سرّا" (متى 6: 6)... ويكمّل يسوع مؤكّداً: "وأبوك الذي يرى في الخفية يُجازيك". هو حاضر لي هنا، من لا يحويه الكون كلّه، من صنع السّماء والأرض. الله الذي يراني وينظر إليّ ويسمعني هو أبي، أنا حبّة الرّمل الصّغيرة، مَن يُخفي كياني أمام عظمته.


من له أن يتصوّر أنّ الله يُمكنه أن يفرح ويغتبط بأنّني أستطيع أن أُفتش عنه وأسمعه وأكلّمه، وأن يكون لي قيمة بنظره، لأنّه يحبّني. ومع ذلك، يبدو لنا في أوّل الأمر صعباً جدًّا أن نداوم المجيء، يوماً بعد يوم، لنقرع هذا الباب الوحيد - ولو لبرهة وجيزة - حيث يضرب لنا الله موعداً، وذلك لأسباب عديدة، ذلك أنّه ينبغي علينا أن نستعيد طريقة أخرى، على مثال موسى أمام العلّيقة الملتهبة (خروج 3/ 1-6).


فإنّه يجدر بنا أن نُهاجر عن حياتنا، ونتجرّد عن أنفسنا، ونبتعد عن الجلبة التي تأتينا من الخارج والدّاخل (على أنّ الإقلاع عن الجلبة الخارجيّة لأسهل من عن الجلبة الدّاخلية). لأنّه يلزمنا وقت طويل لندرك أنّنا لسنا نحن من نصنع الصلاة، بل هو الله من يهبنا القوّة على تلاوتها. ويبقى دورنا أن ننفتح له بحضورنا إليه هنا، وبالكليّة، وليس بحضور جزئيّ.


إنّما يجدر بنا أن يكون حضورنا فاعلاً ناشطاً، يفترض جميع قوانا العقليّة. ليس بالأمر السّهل مداومة الصلاة كلّ يوم وفي الوقت نفسه. هذا لا يحصل في يوم واحد.


كُنتُ في بادئ الأمر، لمّا يحين وقت الصلاة، أصطنع الذرائع. وغالباً ما كنت أحتجّ بمشاغل أخرى أكثر الحاحًا، فأُرجئ الصلاة الى وقت لاحق قائلة:


على كلّ حال، ليس تحديد الوقت هو المهمّ، ولا ينبغي أن أكون أسيرة مواعيد محدّدة...


وبالنّتيجة، فما معنى أن يكون الله قد متّعَني بالحرّيّة وترك لي قدرة الإختيار؟ وهكذا، من ذريعة إلى ذريعة، كان ينقضي النّهار بدون صلاة. ثمّ رويداً رويداً، بعدما تقدّمت في فهم الصلاة وإدراك كنهها، رحت أكتشف كم هي عظيمة تلك القوّة والسّكينة التي تملأ الصلاة حياتي بها. (وأن الله يمدّ بنعمه المبتدئين الذين هم بحاجة ماسّة لمساعدته). ثم أصبحتُ دقيقة التقيّد بمواعيد صلاتي. الصلاة هي الأجمل والأهمّ، ولكنها بالحقيقة تطلب إرادة قويّة، لا فقط للصلاة، بل لكي نكون أمينين على مواقيتها.


فلنفترض أنّ هذا الشّرط قد حصل. تأتي إذاً إلى مخدعك؛ توصد الباب. تتكلّم مع الرّبّ بكلّ دالة، تمجّده، تسجد له. تشكره على ما أعطاك، وعلى ما كفى به جميع حاجاتك. تشكره على نعمة الحياة مع ما فيها من فرح وألم ومصاعب، ترفع إليه طلباتك وطلبات غيرك؛ تستغيث به. هناك طرق عديدة للصلاة ومخاطبته له المجد. هناك مواضيع كثيرة يمكنك أن تطرقها. وإذا ضاقت بك المواضيع، تذكّر أنّ يسوع علّمنا طرقاً كثيرة للتّضرّع والإبتهال، وذلك في الصلاة الربيّة... ويبقى أنّنا، إذا رافقـْنا يسوع عبر صفحات الإنجيل، نكتشف بالتّأكيد طرقا أخرى.


الصلاة هي أن تخاطب الله. هي أيضاً أن تنطلق من جملة معيّنة أو تعبير ما من الكتاب المقدّس،


أو أن تكتفي فقط بالجلوس في حضرة الله وتسمعه يقول:


"أقودها إلى الأماكن المنعزلة وهناك أكلّم قلبها" (هوشع 2: 16). وبالتالي، الله يعلمني، بواسطة الصّلاة، أن أكتشف إرادته، وأن أقبلها مختارا. فالصلاة هي المكان الأصلح لكي يعمل الله فيّ. وذلك عن طريق تسليم ذاتي له، وبفعل قبول إرادتي وتجاوبها الكامل. وهذا ما يجعل الصلاة الوسيلة الفضلى للتحوّل والتّغيير. هذا التّغيير ليس هو هدف الصلاة (فإن هدفها هو اللقاء مع الله). بل هو النّتيجة والبرهان على صلاحها وصحّة هدفها. واعلم أن هناك شيئاً ما خاطئاً في صلاتنا، ما دام الله لا يستطيع أن يغيّرنا ويبدّل ما فينا.  


- ونختم بكلام آخر من كتاب: "الله يدعو"، الذي يدلّنا على وسيلة بها يغلب من هم "أبناء الملك". الصلاة الحقيقيّة تربط النفس والقلب والرّوح بالله تعالى. فصلاة الحمد التي يصعّدها الإنسان المؤمن نحو ربّه، هي بمثابة جرس الحزن الذي يعلن بدقاته موت إبليس. إنّ التّسليم، وحتى الخضوع وإذعان الإرادة، ليس لها القوّة التي للصلاة في قهر إبليس وضد هجماته.


بصلاة الحمد، تُلقي عنك الإحباط والفشل وكلّ مشاعر الضعف والهزيمة. الصلاة هي الوسيلة المُثلى التي تبرز أعمالي الصّالحة، وأفضل طريقة، بها يحنو الله عليّ وينعطف إليّ، فتبقى العلاقة بينه وبيني قائمة والرّوابط موصولة. إنّ القلب الفَرِح هو سلاح يصدّ عنا الشرّ بجميع أنواعه.


"كونوا دائمًا فرحين" (1تسا 5: 6). ومقياس السّعادة هو أن تشعروا كلّ يوم بنشوة الفرح. تعوّدوا أن تكلّموني أثناء النهار. أنظروا إليّ؛ أنظروا إليّ بمحبّة وبقلب تملأه الثّقة. أرقصوا من الفرح، إذ ترونني قريباً منكم. تلك هي أفضل ما تتلونه من صلوات. حينئذ تتبدّد مخاوفكم، فإنّ الخوف هو أسوأ شعور، وهو يُبعد النّصر.


أن تمجّدني بصلاة الحمد، معناه أن تعكس على صلاتك بعضاً من حياتي وأوصافي، وتجسّدها في حياتك أنت. معناه أن تُطهِّر ذاتك وأن تحاول الصّعود إليّ، كما على أجنحة النّسور. تكون صلاتك أنشودة حمد عندما ترتّل مغتبطا وتترك قلبك يرتعش. وتكون صلاتك أنشودة تمجيد عندما تُقدِم على ذلك بكلّ كيانك وكلّ ما فيك من حياة.


عندما أتوجّه إليك قائلا: "إفرحوا، ولتملأ الغبطة قلوبكم" (متى 5: 12)، فإنّي أهيب بكم لتؤدّوا هذه الشّهادة بحياة جديدة وطبيعة متجدّدة. تلك هي الموسيقى الحقّة التي تسبغها السّماء على الأرض، وتلك هي الوسيلة الفُضلى التي بها تستطيعون أن تؤدّوا لي التّمجيد بتضحية حياتكم وبفيض ما في قلوبكم من محبّة".


على الطّائر الميمون سيروا أيّها الإخوة والأخوات نحو الظفر، فخورين بمسحة الرّوح القدس الحيّ ونسمتهِ. إنّ أبانا، سيّد السّادة والملك الأزليّ، ينتظركم فاتحاً قلبه وذراعَيْهِ. قوّموا دروبكم إليه، وأنتم تنشدون أناشيد الفرح والإنتصار على مثال من هم حقيقة أبناء الملك. ولتحفظكم نعمة الله وعنايته! 


 إعداد وتنسيق الأب بولس فهد ر.م.م - نقلاً عن كتاب بوليت بودي: "هذا القتال ليس لك" 1988