كره مار شربل للخطيئة «متفرقات

 

 

 

كره مار شربل للخطيئة

 

من الأدلّة الصريحة والأكيدة على محبّة القدّيس شربل لله، كرهه للخطيئة ونفوره منها. لقد أجمع جميع الشهود العيان على أنّ كرهه للخطيئة كان ثمرة محبّته لله. فأكدّوا في إفاداتهم أنّهم لم يسمعوا قطّ ولم يعرفوا أنّ القديس شربل اقترف في حياته في الدير وفي المحبسة خطيئة واحدة اختياريّة، مميتة كانت أم عرضيّة، لا بل إنّ البعض منهم ذهب إلى القول إنّه كان ينفر من ذكر الخطيئة نفوره من الأفعى. وهذا في رأيهم برهان أكيد على محبّته لله تعالى واتّحاده به، وعلى عدم مخالفته لهذه المحبّة.

 

 

إنّ حياة النعمة تنشأ في النفس يوم العماد، ولكنّها تنمو بعدئذٍ على قدر ابتعاد الإنسان عن الخطيئة واتّحاده بالله. فالعماد هو بداية وليس نهاية. وبعد أن يبلغ الإنسان سنّ الرشد، ويشرع في ممارسة  الفضائل لبلوغ القداسة والكمال، تتّخذ نفسه عندئذٍ موقفًا مضادًا للخطيئة.

 

فيبدأ بقطع أسبابها والهرب منها، لأنّها في رأيه شرّ عظيم وإهانة كبرى للجلال الإلهي. وشرّ ما فيها أنّها تضعف محبّة الله في قلب الإنسان، وتقتلعها من جذورها إذا تأصّلت فيه. وأمّا إذا حارب الإنسان الخطيئة، وهرب من أسبابها، وسيطر على ضعف الطبيعة، كما سيطر القدّيس شربل، فحينئذٍ تغمر نفسه نشوة الاتّحاد بالله، فيهتف مسرورًا ومردّدًا مع القدّيس بولس قوله: "مَن يفصلنا عن محبّة المسيح، أشدّة أم ضعف، أم جوع أم عري، أم خطر أم اضطهاد أم سيف؟. إنّا في هذه كلّها نغلب الذي أحبّنا. فإنّي لواثق بأنّه لا موت، ولا حياة، ولا ملائكة، ولا رئاسات، ولا قوات، ولا أشياء حاضرة، ولا مستقبليّة، ولا علوّ، ولا عمق، ولا خلق آخر يقدر أن يفصلنا عن محبّة الله التي هي في المسيح يسوع" (روم 8/ 35 ـ 39).

 

إنّ الحياة الروحيّة تتعمّق في النفس يوم يختار المسيحيّ المؤمن حالته بالتأكيد، فيكره الخطيئة، ويتبع شرائع الله، ويسلك في جادّة الاستقامة السلوك الذي يتلاءم مع اتّحاد نفسه بخيرها الأسمى، وحبّها الأوحد.

 

وإنّ ثباته في حال النعمة يثير حسد إبليس الذي لا ينفكّ يجرّب بشراسة النفس التي أفلتت من حبائله. فعلى من يودّ الانتصار على عدوّه الحقود، أن يحترس ويحذر من الهجمات المتجدّدة التي يفاجئه بها أوقات الصلاة والعمل والتأمّل والاختلاء، وأن يستعدّ دائمًا لأن يصلب جسده وشهواته، وأن يخاف من السقوط على حدّ قول بولس الرسول: "من يظنّ نفسه أنّه قائم فليحذر السقوط" (1 قور 10/ 12).

 

ومن الأسلحة التي كان يحارب بها القدّيس شربل العالم والشيطان، تجرّده من محبّة الأهل، وثباته في جوّ العزلة والصمت، والانقطاع بكلّيته إلى التأمّل بالسماويّات. فهو لم يترك بيته الوالدي وبلدته بقاعكفرا إلّا ليتكرّس بكلّيته إلى ربّه، ويجلس ليلاً ونهارًا عند قدمي يسوع يصغي إلى كلامه الإلهي ويناجيه متذكّرًا كلامه لمرتا في الإنجيل عن شقيقتها مريم: "أمّا مريم، فقد اختارت لها حظًا سعيدًا لا يُنزع منها" (لو 10/ 42).

 

لم يعُد القدّيس شربل يريد أن يشغله شاغل عن مناجاته لربّه والاتّحاد به. فلا أب، ولا أمّ، ولا أخ، ولا أخت، ولا نسيب، ولا "خليقة أخرى تستطيع أن تفصله عن محبّة الله التي هي في يسوع المسيح" (روم 8/ 39).

 

أما جاءت والدته بريجيتا لتراه بعد إبرازه نذوره الرهبانيّة، وأبى مقابلتها، فكلّمها من داخل جدران الدير؟ أما جاءت شقيقته مع عدد من نساء بلدته بقاعكفرا، ليزرنه في المحبسة ورفض مقابلتهنّ، وأصرّ على عدم التكلّم معهنّ؟ كان له الحقّ في أن يكلّم والدته وشقيقته، ولكنّه شاء أن يُميت ميله الطبيعي إلى تنسّم أخبار أهله وذويه من جهة، وأن يهرب من أسباب التجربة والخطيئة من جهة ثانية.

 

وكأنّي به أراد أن يحقّق، في حياته كلّها، صونًا لفضيلته الملائكيّة، كلام أيّوب الصدّيق: "عاهدت عينيّ أن لا أتأمّل في وجه عذراء" (أي 31/ 1). إنّ مناجاة الله الدائمة، والإستغراق في التأمّل بكمالاته والتمتّع بلذّة محبّته، تلك كانت أمنية القدّيس شربل العُظمى، وهو يعلم أنّ الاتّحاد بالله تعالى هو جوهر الحياة الروحيّة وينبوعها وغايتها.

 

 

 

                                                     من كتاب" روحانية القديس شربل"

                                                            الأب بولس صفير