قمة روحية مسيحية «متفرقات

 

 

ترأس غبطة البطريرك الكردينال مار بشارة بطرس الراعي قبل ظهر اليوم الأربعاء 23 تشرين الأول 2019، في الصرح البطريركي في بكركي، اجتماعا استثنائيا لمجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك والأورثوذكس والإنجيلين ورؤساء الرهبانيات العامين والعامات في لبنان، أطلق في ختامه المجتمعون نداء اعلنوا فيه تضامن الكنيسة مع مطالب الشعب اللبناني والتزامها باحتضانه من ضمن مؤسساتها، وجاء في النداء:

 

 

 

"نحن رؤساء الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية والإنجيلية وأساقفتها ورؤساء الرهبانيات العامين والعامات اجتمعنا في الصرح البطريركي في بكركي للنظر في الحالة الوطنية التي تستدعي مواكبة تطوراتها، بل التحولات، منعا لانزلاق البلاد في مسارات خطيرة تنقض جوهر الوجود اللبناني وهويته.

 

 

 

إننا نؤكد بادئ ذي بدء لشعبنا أن الكنيسة لطالما وقفت إلى جانبه واحتضنت حاجاته من ضمن مؤسساتها التربوية والاستشفائية والاجتماعية، وهي تلتزم مع هذه المؤسسات إلى المزيد من الخدمات.

 

 

 

إن ما يشهده لبنان منذ 17 تشرين الأول هو انتفاضة شعبية تاريخية واستثنائية تستدعي اتخاذ مواقف تاريخية وتدابير استثنائية. المسكنات لا تمر بعد الآن. فما كان هذا الشعب لينتفض لو لم يبلغ وجعه حده الأقصى. وإذا كان هذا الوجع أطلق صرخته اليوم، فهو بدأ منذ سنوات من دون أن تعالجه الدولة بالجدية اللازمة، لا بل أمعنت في الانحراف والعناد والفساد حتى انتفض الشعب. وهذا الواقع المتفجر يفرض علينا جميعا، مرجعيات روحية، التوقف أمامه والعمل الفوري على معالجة أسبابه.

 

 

 

 

نحن المجتمعين هنا، نحيي الشعب المنتفض ونبدي تقديرنا وتضامننا بانتفاضته الحضارية السلمية ونتفهم دوافعها. فهذا الشعب أظهر أنه موحد أكثر من قادته وأعطى الدليل على إرادة الحياة الوطنية في زمن التفكك والفتن. شعب لبنان جسد المحبة والشراكة، وأطلق نبض الكرامة وعنفوان الحرية وتمسك بحقوقه الوطنية والاجتماعية. لقد بعث هذا الشعب برسالة تتخطى الانقسامات الطائفية والمذهبية. خرج الشعب إلى الساحات والشوارع يطالب بدولة مدنية، يقرها أصلا الدستور تستلهم القيم الروحية التي طالما ميزت تاريخ لبنان.

 

 

 

 

نحن المجتمعين هنا، ندعو إلى احتضان انتفاضة أبنائنا المشروعة وحمايتها، وإلى أن يتجاوب الحكم والحكومة مع مطالبها الوطنية ومنها: حكم ديمقراطي، حكومة ذات مصداقية، قضاء مستقل وعادل، أداء شفاف، حياد عن الصراعات، تطبيق اللامركزية الإدارية، بسط سلطة الشرعية دون سواها، مكافحة الفساد، وقف الهدر، استرداد الأموال المنهوبة بقوانين نافذة، تأمين التعليم وفرص العمل، توفير الضمانات الاجتماعية لمختلف فئات الناس. هذه أبسط حقوق الناس بعد مئة سنة على نشوء دولتهم.

 

 

 

 

ما يجري اليوم سبق لنا أن حذرنا من حصوله، لكن الحكومة، بل الحكومات المتعاقبة منذ 30 عاما، تجاهلت نداءاتنا وأهملت واجباتها البديهية، وشعر الشعب أن دولته أصبحت مقاطعات تستشري فيها المحاصصة والمصالح، فلا اعتبار لكفاءة ومساواة وحق، بل للمحسوبيات والزبائنية على حساب كل مكونات المجتمع. فتحول القهر انتفاضة.

 

 

 

 

لم تتحرك الحكومة إلا تحت ضغط الشارع. فلائحة الإصلاحات التي أصدرها مجلس الوزراء أخيرا، لا سيما إقرار الموازنة، تشكل خطوة أولى إيجابية، لكنها تستلزم تعديل الفريق الوزاري وتجديد الطاقم الإداري فيؤتى بأصحاب الكفاءات والصدقية والنزاهة والوطنية، وتحتاج لائحة الإصلاحات أيضا إلى آلية تنفيذية سريعة لكي يأخذها الشعب بجدية، لأنه فقد ثقته بهذه الحكومة ووعودها.

 

 

 

 

في خضم هذه الأحداث التاريخية التي يتابعها العالم بدوافع مختلفة، نتوجه إلى السلطة والشعب والمجتمع الدولي:

 

 

 

-أولاً: إلى السلطة القائمة، بأن تعي حجم الحدث وخطورته على مصير لبنان، وخصوصا على مصير كيانه وهويته واقتصاده، فلا تتعاطى معه كحدث عابر، بل كتحول اجتماعي/وطني. ندعو السلطة إلى اتخاذ خطوات جدية، جذرية وشجاعة لإخراج البلاد من هذه الأزمة الكبرى. وندعوها إلى تغيير سلوكيات الحكم والحكومة والإدارة، إلى حوكمة رشيدة ومتجردة، إلى الانفتاح على قوى المجتمع الحية. فبئس دولة تخاف شعبها ونخبها.

 

 

 

 

وندعو فخامة رئيس الجمهورية، المؤتمن على الدستور، وناظم عمل المؤسسات، إلى البدء فورا بالمشاورات مع القادة السياسيين ورؤساء الطوائف لاتخاذ القرارات اللازمة بشأن مطالب الشعب. فاستمرار شلل الحياة العامة في البلاد من شأنه أن يؤدي إلى انهيار البلاد اقتصاديا وماليا، ما يرتد سلبا على الشعب اللبناني، وبخاصة على أبنائنا وبناتنا الثائرين. لقد حان الوقت لكي تلبي الدولة المطالب المحقة لتعود الحياة الطبيعية إلى البلاد.

 

 

 

ثانيا: إلى الشعب اللبناني المنتفض في لبنان وفي بلدان الانتشار، أن يحافظ على نقاء تحركه وسلميته، أن يمنع أي طرف من أن يستغل صرخته ويحولها حركة انقلابية، ويشوه وجهها الديموقراطي. وبعد أسبوع من هذه الانتفاضة الشعبية المستمرة التي جسدت حرية التعبير، لا بد أيضا من احترام حرية التنقل للمواطنين لتأمين حاجاتهم ولا سيما الصحية والتربوية والمعيشية والاقتصادية، فيبقى الرأي العام محتضنا هذه الانتفاضة. في هذا السياق، ندعو المتظاهرين للتوافق في ما بينهم على من يحاور باسمهم مع المراجع المعنية للوصول إلى حلول ناجعة. وإننا نثمن جهود الجيش اللبناني خصوصا والقوى الأمنية عموما لاحتضان هذا التحرك وحمايته، طالبين من الجميع التعاون مع هذه المؤسسات والتجاوب مع تدابيرها الأمنية والحياتية.

 

 

 

ثالثا: إلى المجتمع الدولي، بأن يؤدي دوره في دعم أول ديموقراطية نشأت في هذا الشرق. في الحفاظ على أول تجربة شراكة مسيحية/ إسلامية نشأت بعد الحرب الأولى. في مساعدة لبنان في حل المشاكل التي نتجت عن حروب دول المنطقة وفي التشدد بتطبيق القرارات الدولية جميعا. وما انتفاضة الشعب اللبناني اليوم سوى دليل إضافي نقدمه للعالم ليدرك مرة أخرى أن شعب لبنان يستحق الحياة الحرة والديمقراطية، والسيادة والاستقلال، ويستحق الاستقرار والازدهار. إننا نهيب بالمجتمع الدولي، القريب والبعيد، مساندة لبنان شعبا ودولة ليبقى منارة هذا الشرق ووطنا رسالة على حد ما وصفه البابا القديس يوحنا بولس الثاني.

 

 

 

أيها الأبناء والبنات. نفهم انتفاضتكم ونسمع صرختكم، نؤيد مطالبكم، ولا نقبل أن تضيع. لذا نؤكد لكم أن انتفاضتكم ستبقى تنبض في القلوب حتى تتحقق إصلاحا. ما فعلتموه هو أكثر من انتفاضة إنه نهضة لبنان الوطن.

 

 

 

في الختام، نرفع صلاتنا إلى الله كي يبارك شعبنا، ويعطينا جميعا نعمة الإصغاء والحوار البناء بواقعية وتواضع وانفتاح، فنعمل جميعا لما فيه مجد الله وخير وطننا لبنان".

 

 

 

وكان اللقاء قد استهل بعد رفع الصلاة بكلمة للبطريرك الراعي، اشار فيها الى ان "الشعب اللبناني ينتظر موقف الكنيسة فهو للأسف لم يعد لديه ثقة بالسلطة ولا بالدولة ولا بالمسؤولين السياسيين. كل الأنظار موجهة الينا ونحن بدورنا لا يمكننا ان نخيب آمالهم." لقد انتظرنا القرارات التي اصدرتها الحكومة يوم الإثنين الماضي وعلى ضوئها اجتمعنا امس مع دوائرنا في بكركي لنعد هذه الورقة التي هي مجرد مشروع سنعمل معكم عليه. فنناقشه ونبحث فيه لاصدار البيان النهائي."

 

 

 

موقع بكركي.