عظة البطريرك الرَّاعي - عيد سيّدة لبنان «متفرقات

 

 

"أمّي وإخوتي هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها" ( لو 8: 21)

 

 

1. أمّنا مريم العذراء التي نحتفل بعيدها في هذا الأحد الأوّل من شهر أيّار المكرّس لتكريمها، هي بامتياز وبنوع فريد من "الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها" ( لو 8: 21).

 

 

لقد أصغت مريم لكلمة الله، يوم بشّرها الملاك، وقبلت هذه الكلمة بالإيمان والرجاء والمحبّة، في عقلها وقلبها وإرادتها الحرّة. فاصبح الكلمة جنينًا في بطنها، بقوّة الروح القدس، وهي ما زالت بتولًا. كتب القدّيس البابا لاون الكبير أنّ "مريم حمِلت وولدت إبنًا إلهًا وإنسانًا في روحها أوّلًا، ثمّ في جسدها".

 

 

2. أمومة مريم مثلّثة، أمومة بالروح، وأمومة بالجسد، وأمومة سريّة:

 

-       أمومتها بالروح تجسّدت بقبول كلمة الله التي حملها إليها الملاك جبرائيل، فبلّغها أنّها "تقبل حبلًا وتلد إبنًا وتدعو اسمه يسوع، بقوّة الروح القدس. هذا المولود منك قدّوس، وابن العليّ يُدعى" (لو 1: 31، 35).

 

-       أمومتها بالجسد هي تحقيق الوعد بأنّها تقبل وتحبل بابن الله الذي صار إنسانًا، آخذًا من جسدها، كيانه ووجوده على الأرض، لابسًا إلى جانب طبيعته الإلهيّة، طبيعته الإنسانيّة.

 

-       أمومتها السرّية هي أمومتها لجسد يسوع السرّي الذي هو الكنيسة، ولكلّ إنسان بشخص يوحنّا: "يا إمرأة، هذا ابنكِ، ويا يوحنّا، هذه أمّك" (يو 19: 26-27). إذا نحن قبلنا كلمة الله في عقولنا وقلوبنا وتأمّلنا بها، نعطي بأفعالنا وأقوالنا ثمار حضور المسيح-الكلمة.وعندما نقبل كلام الله ونعمل به، نشبه الأرض الطّيبة التي تقبل الزرع وتثمر أضعافًا (راجع متى 13: 3-9 ).

 

 

3. يسعدني أن أحيّيكم جميعًا مع التهاني والتمنيات بعيد أمّنا مريم العذراء سيّدة لبنان التي نسألها أن تحمي وطننا وشعبنا، وتبقيه أرض الإيمان والصلاة، وتزرع السلام في القلوب، وأحيّي تحيّة خاصّة قدس الأب مارون مبارك، الرئيس العام لجمعيّة المرسلين اللبنانيّين الموارنة التي تخدم هذا المزار منذ تأسيسه، وما نشأ حوله من أماكن صلاة، وعلى الأخصّ هذه البازيليك التي تجمعنا. كما أحيّي رئيس المزار الأب فادي تابت وجمهور الآباء معاونيه، مهنّئًا بالعيد، ملتمسًا لهم الثواب الإلهيّ. كما أهنّئهم على إنشاء قناة بثّ لمزار سيّدة لبنان تبدأ عملها اليوم.

 

 

4. مع بداية الشهرِ المريميّ نرفع أنظارنا وقلوبنا إلى أمّنا مريم العذراء سيّدة لبنان ومع اللبنانيّين نبحث عن رجاءٍ جديدٍ تَحمِلُه إليهم الصلوات، وقد أصبحت أملَهم الأساسيَّ في غيابِ المبادراتِ السياسيّةِ وتنامي الانقساماتِ الوطنيّة وعَجزِ الدولة. إنَّ خُططَ التعافي ومشاريعَ الإصلاح ِتبقى عديمةَ الفائدةِ في أجواءٍ يَسودُها الحِقدُ العارِم. ومفعولُ الانتخاباتِ النيابيّةِ والرئاسيّةِ يَظلُّ محدودَ التأثيرِ الإيجابي ما لم ترافِقْها روحُ الوئام والمحبّة.

 

 

 

أيُّ قضيّةٍ أو أزمةٍ تُحَلُّ بالأحقاد؟ لقد كشفت هذه الأيّامُ أنَّ تأثيرَ الأحقادِ أسوأُ من تأثيرِ الانقساماتِ السياسيّةِ والعقائديّة. بالمحبّةِ نَحُلُّ أيَّ خلافٍ ولو كان عميقًا، وبالحِقدِ لا نَحُلُّ أيَّ خلافٍ ولو كان سطحيًّا. والخطورةُ أن الأحقادَ تَنتقلُ بالتبعيّةِ من القياداتِ إلى الجماهير العمياء، وتَنتشِرُ في العائلاتِ والبيوتِ والقُرى والمدُن، زارعةً جرثومةَ الكراهيّةِ ووباءَ الفِتنةِ ممّا يُعيقُ جميعَ الحلولِ الدستورّيةِ والاقتصاديّة. إنّه لـمُخزِ أن يتبادلَ عددٌ من المرشَّحين والأحزابِ والتَـــيّاراتِ الأحقادَ والشتائمَ عوضَ أن يتنافسوا حولَ برامجَ وطنيّةٍ وإنقاذية؟ والمخْزي أكثر، أنَّ كلَّ ذلك يجري بينما شعبنا يَغوص أكثرَ فأكثر في الفَقرِ والجوعِ وتَعوزُه مستلزماتُ الحياةِ الإنسانيّةِ الكريمة.

 

 

لا تزالُ صورُ كارثةِ غرَقِ الزورقِ قُبالةَ طرابلس باديةً أمام أعينِنا، ولا يزال الألمُ يَـحُـزُّ في قلوبِنا ونحن نرى موتَ الأطفالِ والشباب والأمّهات والآباء، وقد صلّينا لراحة نفوس الضحايا وعزاء أهاليهم. لا يجوز أن تَـمُرَّ هذه الفاجعةُ كأنّها حدثٌ عابر، وتَضيع في المزايداتِ ويحاولَ البعضُ طيَّ صفحتِها كما يحاولون طيَّ صفحةِ تفجير مرفأ بيروت وانفجار قريةِ التَليْل في عكار وغيرها. لذلك، ندعو الدولةَ إلى إجراءِ تحقيقٍ شفّافٍ وحِياديٍّ لتحديدِ المسؤوليّاتِ ولوضعِ حدٍّ للتساؤلات والتشكيك، خصوصًا أنّنا عشيّةَ انتخابات نيابيّة.

 

 

5. إنّنا مع ذوي النوايا الحسنة نَحرِصُ على أن تجريَ الإنتخابات في جوٍّ أمنيٍّ وديموقراطيّ. إنّنا أمام مرحلةٍ مليئةٍ بالأحداث لبنانيًّا وإقليميًّا ودوليًّا: مِن حربِ أوكرانيا وحروب الـمِنطقة والتقاربِ بين بعضِ الدول والتباعدِ بين دول أخرى، مرورًا في أحداثِ المسجدِ الأقصى في القدس والغاراتِ الإسرائيليّةِ على الأراضي السورية، وصولًا إلى تسخينِ جَبهة الجنوب اللبنانيّ. مطلوبٌ تهدئةُ هذه الجبهة ليستأنفَ لبنانُ برعايةٍ دوليّةٍ مفاوضاتِ ترسيمِ الحدودِ مع إسرائيل، فيصبح بإمكانه استخراج النفط والغاز في محيطٍ مسالمٍ. إنَّ أولويّتَنا هي تثبيتُ كيانِ لبنان وأمنِه القوميِّ ليتمكّن من إجراء الاستحقاقاتِ الدستوريّةَ من دون مفاجآت.

 

 

 

6إنّنا نُجدّد دعوَتنا المواطنين إلى الاقتراع الكثيفِ لكي يَستعيدوا مبادرةَ تقريرِ مصيرِهم من الّذين عَبثوا بهذا المصيرِ وعرّضوا لبنانَ للانهيارِ وهُويّتَه للتزوير وتغاضَوا عن وضعِ اليدِ على مؤسّساتِ الدولة وقراراتِها. إن الانتخاباتِ تُعطي لكلِّ مواطنٍ فرصةَ أن يُترجمَ شعارَ أنَّ "الديمقراطيّةَ هي حكمُ الشعب من الشعب". واجبُ اللبنانيّين أن يستفيدوا من هذا الاستحقاقِ ليقولوا للعالم أيَّ لبنان يريدون، وليُبلِّغوا الدولَ التي تتابعُ الشأنَ اللبنانَّي أنّهم يرَفضون كلَّ اقتراحِ لمشروعِ تسويةٍ أو مساومة لا يَنسجمُ مع حقيقةِ لبنان، ولا يحترمُ التضحيّاتِ التي قدّمها الشعبُ اللبنانيُّ للحفاظِ على استقلالِه وحضارتِه وخصوصيّةِ وجوده هنا.

 

 

7. وواضحٌ أنَّ غالِبيّةَ اللبنانيّين متمسّكون بلبنان الحرِّ الديمقراطيّ الحياديِّ، لبنانَ الشراكةِ الوطنيّةِ والميثاق، لبنانَ الهُويّةِ التاريخيّةِ والعدالةِ والمساواة، لبنانَ الجيشِ الواحِد والمؤسّساتِ الدستوريّة. ويريدون خصوصًا لبنان الحياةِ والازدهار والاقتصاد الحرّ. في هذا السياق، إنَّ التضحيةَ بودائعِ الناسِ في المصارف ليست قدَرًا لا مفرًّا منه. فهناك حلولٌ علميّةُ أخرى متوفّرةٌ وقادرةٌ على التوفيقِ بين معالجة مديونيّةِ الدولةِ ومداخيلها من جهةٍ، وبين الحفاظ على أموالِ المودِعين من جهةٍ أخرى. وأبرزُ هذه الحلول تعويمُ مرافئِ الدولةِ الكبرى وتخصيصُها بشكلٍ يُعيدُ قسمًا كبيرًا من أموالِ المودعين على أن يتأمنَ القسمُ الآخر مع إعادةِ الدورةِ الماليّةِ والاقتصاديّة في المصارف والبلاد.

 

 

 

إن هذه المرافئ تحوّلت منذ سنواتٍ مصدرَ تمويلٍ للقوى الحزبيّةِ والتنظيمات العسكرية على حساب خزينة الدولة. نعم، توجد حلولٌ للمودِعين إذا مَزجنا المقترحاتِ التقنيّةَ بأفكارٍ خلّاقة. لكنَّ اللافتَ إنَّ غالِبيّةَ الحلولِ المطروحةِ لحل الأزمةِ الاقتصاديّة والماليّة هي حلولٌ بديلةٌ عن الحلِّ الأصيل، لأنّها تنطلقُ من زاويةٍ تقنيّةٍ ضيّقةٍ وتتجاهلُ البعدَ السياسيَّ وتَتعامى عن الأمرِ الواقع الذي أوصَل البلادَ إلى هذا الإنهيار.

 

 

أيّها الإخوة والأخوات الأحبّاء،

 

6. كلّ سرّ مريم العذراء هو قبولها كلمة الله في قلبها وعقلها وإرادتها الحرّة. نصلّي إليها اليوم لتجعلنا متشبّهين بها في هذا القبول. فلو أنّ كلّ إنسان يصغي لكلام الله ويقبله، لتبدّل وجه الكون، بداءً من العائلة وصولًا إلى المجتمع فإلى الدولة.

 

 

فيا مريم سيّدة لبنان، إحمي بوشاح عنايتك هذا الوطن وشعبه، لتظلّ رسالته المسيحيّة فاعلة ومنتجة فيه وفي محيطه العربيّ وبعده الدوليّ. فنرفع معك المجد والتسبيح للثالوث القدّوس الذي إختارك، الآب والإبن والروح القدس، آمين.

 

 

 

موقع بكركي.