عظة البطريرك الرّاعي - عيد يسوع الملك «متفرقات

 

 

 

 

  "كلُّ ما عَمِلتُمُوهُ لأَحَدِ إِخوَتِي هَؤُلاءِ الصِّغَارِ، فَلِي عَمِلْتُمُوه" (متى40:25).

 

 1. تحتفل الكنيسة، في هذا الأحد الأخير من السَّنة الطَّقسيَّة، بعيد المسيح الملك الذي سيأتي بالمجد في نهاية الأزمنة، "ليدين الأحياء والأموات"، كما نعلن في قانون الإيمان. إنّه في مساء الحياة سيَديننا على المحبَّة تجاه إخوتنا البشر في مختلف حاجاتهم الماديَّة والاقتصاديَّة والمعنويَّة والرُّوحيَّة. ويُعلن أنَّه متماهٍ مع كلّ إنسانٍ في حاجته ويُسمّيه أخاه الصَّغير: "كلّ ما عملتموه لأحد إخوتي هؤلاء الصّغار، فلي عملتموه" (متى40:25).

 

 

2. الحالات السّتّ التي يُعبِّر فيها الرَّبُّ يسوع عن حاجة كلّ إنسانٍ، أي الجوع والعطش والعري والغربة والمرض والسّجن، لا تقتصر على المستوى المادّيّ والإقتصاديّ، بل تَشمل أيضًا المستوى الروحي والمعنويّ والثَّقافيّ.

 

 

 

فالجائع يحتاج إلى خبزٍ وطعامٍ، وكذلك إلى علمٍ وعمل. والعطشان يحتاج إلى ماءٍ، وأيضًا إلى عدالةٍ وكرامةٍ وحقوقٍ أساسيَّةٍ. والعريان بحاجةٍ إلى ثوبٍ وحذاءٍ وسَكنٍ، وأيضًا إلى وظيفةٍ ومكانةٍ ودورٍ في مجتمعه. والغريب هو العائش في وطنٍ غير وطنه، وهو أيضًا الذي يعيش مرارة الغربة في وطنه الذي لا يسمح له بتحفيز قدراته، ولا يشركه في إنمائه، فيعيش مرارة التَّهميش والإهمال والإقصاء. والسَّجين هو المأسور وراء القضبان الحديديَّة، وهو أيضًا أسير القهر والاستبداد الظُّلم والاستكبار من أصحاب النُّفوذ والقابضين على القرار وسَير المؤسَّسات الدُّستوريَّة والإدارات العامَّة.

 

 

 

3. إنَّ الشَّعب اللُّبنانيّ، بأطفاله وشبابه وكباره ونسائه، الذي يعيش ثورته الإيجابيَّة الإصلاحيَّة في تظاهراتٍ عفويَّةٍ منذ أحد عشر يومًا، على الطُّرُقات في جميع المناطق اللُّبنانيَّة وفي بلدان الانتشار، فلأنَّه يُعاني من هذه الحالات السّتّ ماديًّا ومعنويًّا واقتصاديًّا ومعيشيًّا.  فلا يُنظَر إلى هؤلاء المتظاهرين السِّلميِّين الحضاريِّين بنظرةٍ فوقيَّةٍ أو إستهتاريَّةٍ أو تسييسيَّةٍ. ولا يحقُّ الانحراف بانتفاضتهم إلى نزاعٍ حزبيٍّ أو إلى أهدافٍ إيديولوجيَّةٍ هدَّامة. إنَّها في الحقيقة ظاهرةُ التحام الشَّعب اللُّبنانيّ على اختلاف أطيافه، تحت راية لبنان، في مدنه وبلداته المختلفة، حول مطالبه الوطنيَّة المُحقَّة بالكرامة والعدالة الاجتماعيَّة، الرَّافضة للواقع الماليّ والاقتصاديّ المتعثِّر، والمطالبة بحكومةٍ توحي الثِّقة.

 

 

 

إنَّ هذا المشهد يؤكِّد للجميع أنَّ ثقافتنا الوطنيَّة التَّاريخيَّة هي ثقافة الحريَّة والحياة الكريمة، في دولة المواطنة الحاضنة للتنوّع.  فلا مجال هنا لترهيب أو لتخوين شبابنا الذين يُضحُّون من أجل تصويب الممارسة السِّياسيَّة بحيث تتحلَّى بالتَّجرُّد والنَّزاهة والشَّفافيَّة. إنَّ ثقافة العيش المشترك التي تُميِّز لبنان إنَّما ترتكز على قيمٍ ثلاث: الحريَّة والتَّعدُّديَّة والكرامة الإنسانيَّة. وعليه، لا شرعيَّة لأيّ سلطة لا تكون ضامنةً لهذه القيم وخادمةً لها. إنَّ الشَّعب، في دستورنا اللُّبنانيّ، هو مصدر السُّلطات وأساس شرعيَّتها. لذلك لا تستطيع السُّلطة السِّياسيَّة تجاهله، بل عليها أن تُصغي إلى مطالبه، وتتفاعل معه قبل فوات الاوان. صرخة المتظاهرين هي هي، منذ أحد عشر يومًا: تأليف حكومةٍ جديدةٍ بكلِّ وجوهها، مصغَّرةٍ وحياديَّةٍ، ومؤلَّفةٍ من شخصيَّاتٍ مشهودٍ لها بكفاءاتها، وتكون محطَّ ثقة الشَّعب، ومتَّفق عليها مسبقًا منعًا للفراغ، لتعمل على تطبيق الورقة الإصلاحيَّة التي أعلنها دولة رئيس الحكومة في 21 تشرين الأوَّل الجاري، والتي يقبلها المتظاهرون ولكنَّهم لا يثقون بأنَّ الحكومة الحاليَّة قادرةٌ على تنفيذها، وقد أمضَتْ سنتَين بعد مؤتمر "سيدر" لكتابتها، ولم تقم إلى الآن بأيِّ إصلاحٍ مطلوبٍ من هذا المؤتمر للاستفادة من المال المرصود لمساعدة النَّهضة الإقتصاديَّة في لبنان.

 

 

 

هذه الورقة الاصلاحية اعتبرها فخامة رئيس الجمهورية في كلمته بتاريخ 24 تشرين الاول الجاري، "الخطوة الاولى لانقاذ لبنان وإبعاد شبح الانهيار المالي والاقتصادي عنه" وأكّد على "ضرورة اعادة النظر بالواقع الحكومي الحالي لهذه الغاية". فاننا نطالب جميع القوى السياسية المعنية التجاوب مع دعوة فخامة الرئيس وصرخة الشعب المتكررة.

 

 

 

4. إنَّ نظامنا السِّياسيّ في لبنان ديموقراطيٍّ لا ديكتاتوريّ، تعدُّديٍّ لا أحاديٍّ، وطنيٍّ لا مذهبيٍّ، وشعبه هو مصدر السُّلطات (راجع مقدِّمة الدُّستور، "ج" و "د"). ولا أحد يختزل الشعب ويفرض رأيه أو إرادته عليه.

 

 

 

فيا ايُّها السِّياسيُّون، كما كنتم تبحثون عن رضى الشَّعب وصوته في زمن الانتخابات، إبحثوا الآن عن هذا الشعب وعمَّا يرضيه، لئلاّ تخسروا ثقته بشكلٍ نهائيٍّ. لا تهملوا هذه الانتفاضة الوطنيَّة لئلّا يكبر حجمها وتخرج عن مسارها الوطنيّ الإيجابيّ، بفعل المخرِّبين المأجورين المندسِّين بثوب الحمل.

 

 

 

وأنتم أيُّها المنتفضون، حافظوا على خلقيَّة انتفاضتكم، ولا تسقطوا في تجربة النِّزاعات الحزبيَّة والمذهبيَّة. سهِّلوا للمواطنين حقَّهم في التَّنقُّل والمرور من أجل تلبية حاجاتهم، ولا تظهروا كأنَّكم أسياد الطُّرق العامَّة التي هي ملكٌ للجميع. فتجاوبوا مع الجيش اللبناني والقوى الامنية التي نحيي جهودها ونثمّن حكمتها. وأدعوكم مع المؤمنين كافة، للوقوف عند السَّاعة الخامسة والنّصف من مساء كلِّ يومٍ لتلاوة مسبحة ورديَّة السَّيِّدة العذراء، التي هي سلاحنا الامضى والاقوى ، بدءًا من هذا المساء وسأتلوها معكم عبر وسائل الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، ملتمسين من الله بشفاعتها، وهي سيِّدة لبنان، وبشفاعة قدِّيسيه، أن يستجيب لصلاتكم وصلوات كلِّ ذوي الإرادات الحسنة، ويمسَّ ضمائر المسؤولين السِّياسيِّين ويلهمهم السَّبيل إلى إخراج لبنان من هذه الأزمة الخطيرة للغاية على مصيره. فلا يدخل إلينا "شتاء" ذاك "الرَّبيع العربيّ" الهدَّام، إذا تصرَّفنا جميعنا بوعيٍ وحكمة.

 

 

 

5. كلُّ هؤلاء المتظاهرين هم، في ضوء إنجيل اليوم، "إخوة يسوع الصِّغار" (متى 29:25): "إخوته" لأنَّه متضامنٌ معهم في وجعهم المتنوِّع، والمعبَّر عنه في صرختهم. فمثلهم ذاقَ الفقر والحاجة والظُّلم والرَّفض والإقصاء، واتَّحد بهم من خلال آلامه، "فأعطى آلامهم قيمةً خلاصيَّةً" (كول 24:1). و"صغار" لأنَّه هو "البكر بين إخوةٍ كثيرين" (روم 28:9). متماهٍ معهم بحيث أنَّ من يخدمهم ويلبِّي حاجاتهم ويُخرجهم من معاناتهم، التي يُعبِّرون عنها منذ أحد عشر يومًا، إنَّما يَخدم المسيح الرَّبَّ نفسه القائل: "كلّ ما عملتموه لأحد إخوتي هؤلاء الصّغار، فلي عملتموه" (متى40:25).

 

 

 

أيُّها المسؤولون السِّياسيُّون في لبنان، أنتم مدعوُّون لهذا العمل الشَّريف بتلبية حاجات شعبنا وشبابنا بفعل محبَّةٍ يُحرِّركم أنتم أوَّلاً من أَسْر مصالحكم وحساباتكم وأفكاركم المسبقة وتأويلاتكم وتحليلاتكم الضَّيِّقة. إنَّكم ستُدانون من الله ومن التَّاريخ على محبَّتكم لشعبكم. فكونوا على مستوى هذه الدَّعوة الشَّريفة التي تُشرككم في ملوكيَّة المسيح، ملوكيَّة المحبَّة والحقيقة والعدالة الاجتماعيَّة والسَّلام.

 

 

 

 

 

 

6. ونحن، في هذه الذَّبيحة المقدَّسة، نرفع صلاتنا إلى المسيح الملك لكي يرفع كلّ مسؤول إلى قمم الرُّوح، ويُشدِّد شعبنا في نضاله من أجل أن تسود المحبَّة وتنتصر الحقيقة وتتحقَّق العدالة الاجتماعيَّة، تمجيدًا للإله الواحد والثّالوث، الآب والابن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.

 

 

 

 

موقع بكركي.