عظة البطريرك - أحد تذكار الكهنة «متفرقات

 

 

 

  "مَنْ تُرَاهُ الوَكِيلُ الأَمِينُ الحَكِيم" (لو42:12)

 

 

 

      1. تَبدَأ مع هذا الأحد أسابيع التَّذكارات الثَّلاثة. وهي على التَّوالي تذكار الكهنة، ثمَّ الأبرار والصِّدِّيقين، فالموتى المؤمنين. هي كنيسة الأرض المجاهدة تستشفع كنيسة السَّماء الممجَّدة من أجل كنيسة المطهر المتألِّمة.

 

 

 

      يُسمِّي الرَّبُّ يسوع وكيلاً كلَّ صاحب مسؤوليَّةٍ في العائلة والكنيسة والدَّولة. ويقتضي منه أن يكون أمينًا وحكيمًا في أداء واجبه اليوميّ تجاه الموكولين إلى عنايته. تُطبِّق الكنيسة هذا الإنجيل على الكهنة: "مَن تُراه الوكيل الأمين الحكيم، الذي أقامَهُ سيِّدُه على بَنِي بيته ليُعطيَهم الطَّعام في حينه" (لو 42:12).

 

 

 

      2. اليوم، وهو الثَّاني من شباط، تَذكُرُ الكنيسة أيضًا دخول يسوع الطِّفل إلى الهيكل وتقدمته لله على يد سمعان الشَّيخ الذي قبله بين يديه وتنبَّأ عليه أنَّه "نورٌ ينجلي للأمم" (لو32:1). فجَرَتْ عادة تبريك الشُّموع التي تَرمُز إلى نور المسيح. ويأخذُها المؤمنون متذكِّرين أنَّ المسيح يُخرِجُهم من ظلمة الخطيئة إلى نور النِّعمة.

 

 

 

3. يُسعِدُنا أن نحتفل معًا بهذه اللِّيتورجيَّا الإلهيَّة، ونُقدِّمها لراحة نفوس الكهنة والأساقفة المتوفَّين الذين أدَّوا واجب وكالتهم المثلَّث، وهو: نقل كلمة الله إلى المؤمنين بالكرازة والإرشاد والتَّعليم لإحياء إيمانهم، وتوزيع نعمة الأسرار لتقديس نفوسهم، ورعاية الجماعة المؤمنة برباط المحبَّة. ونذكُرُ بصلاتنا أيضًا الكهنة والأساقفة الأحياء لكي يقوموا بواجبهم هذا المثلَّث بكلِّ حكمةٍ وأمانة.

 

 

      4. ويَطِيبُ لي أن أُرحِّب بكلِّ واحدٍ منكم، وعلى الأخصّ بجماعة الصَّلاة للقدِّيسة فيرونيكا جولياني الإيطاليَّة (1660-1728). هي راهبةٌ أشرَكَها الرَّبُّ يسوع في آلامه: إكليل الشَّوك وجراحات جنبه ويدَيه ورجلَيه للتَّكفير عن خطايا البشر. وقالت لها السَّيِّدة العذراء: "أنتِ قلبُ قلبي". أسَّست هذه الجماعة السيَّدة جوليانا سمعان في 17 شباط 2015، وهي تلتزم بتعليم الكنيسة الكاثوليكيَّة وعيش روح الإنجيل، والصَّلاة على النَّوايا المستوحاة من حياة القدِّيسة فيرونيكا، وبخاصَّة:

 

 

      - التَّعويض والتَّكفير عن الخطايا التي تُسيء لقلب يسوع وقلب مريم الطَّاهر، وإرتداد الخطأة الضَّالِّين.

 

      - الصَّلاة من أجل الكهنة وإعلاء شأن الكنيسة ونجاتها من أعدائها.

 

      - السَّلام في لبنان وبلدان الشَّرق الأوسط، ووحدة العائلات المتعثِّرة.

 

 

      5. تطبيقًا لكلام الرَّبِّ يسوع في إنجيل اليوم، نتأمَّل في وكالة الكهنة والأساقفة. إنَّهم "وكلاء أسرار الله" (1كور1:4)، كما يُسمِّيهم بولس الرَّسول؛ موكَّلون على خدمة الكلمة والنِّعمة والمحبَّة، بسلطانٍ إلهيٍّ يُشركهم في سلطان المسيح، الكاهن الأسمى و"راعي الرُّعاة العظيم" (1بط4:5). وهو سلطانٌ مقدَّسٌ مثلَّث: التَّعليم والتَّقديس والرِعاية. هذا هو الجوهريّ في حياة الكاهن والأسقف ورسالته. إذا قامَ به بأمانةٍ وحكمة، نالَ مكافأة الخلاص الأبديّ. أمَّا إذا أهملَهُ وأساءَ استعماله، لا سمح الله، كان مصيره الهلاك. هذا اكَّدَه الرَّبُّ يسوع بكلامٍ واضحٍ وصريحٍ في الإنجيل الذي سمعناه.

 

 

 

      6. الكلام الإلهيُّ ينطبق أيضًا على كلِّ صاحب مسؤوليَّةٍ في العائلة والدَّولة.

 

 

      فالطَّعام المتبادل الذي يُقدِّمه الزَّوج والزَّوجة هو إسعاد الواحد الآخر، واحترامه، وتأمين خيره، ودفء حُبِّه، والتَّعاون في جميع ظروف الحياة الزَّوجيَّة.

 

 

      والطَّعام الذي يُقدِّمه الوالدون لأولادهم هو إعالتهم وتأمين حياةٍ كريمةٍ لهم، وتربيتهم على الإيمان والصَّلاة، وعلى القيم الرُّوحيَّة والأخلاقيَّة، وحمايتهم من المخاطر التي تتهدَّدُهم.

 

 

      والطَّعام الذي يُقدِّمه المسؤولون السِّياسيُّون هو تأمين الخير العامّ الذي منه خير جميع المواطنين وخير كلِّ مواطن، وذلك من خلال الاعتناء بمجمل أوضاع الحياة الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والإنمائيَّة والسِّياسيَّة، عبر المؤسَّسات الدُّستوريَّة، وهي رئاسة الجمهوريَّة ومجلس النُّواب والحكومة.

 

 

      7. لا يمكن من دون هذه المؤسَّسات تحقيق الخير العامّ. فهي وحدها تُنظِّم الحياة العامَّة في مقتضياتها اليوميَّة ومتفرّعاتها؛ وتُؤمِّن إدارة شؤون الدَّولة في نشاطها الدَّاخليّ كالدَّوائر والمشاريع والمخطَّطات في ميادين الاقتصاد والإنماء والتَّشريع وإيجاد فرص عمل. وتؤمِّن شؤون الدَّولة في نشاطها الخارجيّ بما تُقيم من علاقات متبادلة مع الدُّول، وما تبرُمُ من معاهداتٍ واتِّفاقيَّاتٍ لصالح الجميع. وتُعزِّز لدى الأجيال الطَّالعة محبَّة الوطن وكرامته وتراثه وتاريخه والولاء اليه. وتُحقِّق آمال أبنائه وتطلُّعاتهم وتُزيل هواجسهم، وتُجنِّبهم ما يتهدَّدُهم من أخطار (شرعة العمل السِّياسيّ، ص 19). على كلِّ هذه الأمور تُحاسَب السُّلطة وتُساءَل، وفقًا لمبادئ الدُّستور. فلا يَحُقُّ للسُّلطة مواجهة المطالب السِّلميَّة المحِقَّة بالعنف والحكم البوليسيّ. كما لا يَحُقُّ للمطالبين تخطِّي الأصول الدُّستوريَّة.

 

 

 

      8. ويَنطَبِق موضوع الإنجيل على قادة الأُمم، من حيث هم موكَّلون على السَّلام في العالم بحكم ميثاق الأمم المتَّحدة التي أسَّسوها ووقَّعُوا ميثاقها في 26 حزيران 1945، وكَتَبوا في مقدِّمته: "لقد آلينا على أنفسنا أن نُنقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب". وكَتَبوا في المادَّة الأولى: "مقاصد الأمم المتَّحدة هي حفظ السِّلم والأمن الدَّوليّ... وإنماء العلاقات الودِّيَّة بين الأمم على أساسٍ من احترام مبدأ التَّسوية في الحقوق بين الشُّعوب... وتحقيق التَّعاون الدَّوليّ على حلِّ النِّزاعات الدَّوليَّة، وعلى تعزيز احترام حقوق الإنسان".

 

 

      ولكن، بكلِّ أسف، نحن نختبر نقيض ذلك في بلدان الشَّرق الأوسط. وكان آخرها ما يُسمَّى "بصفقة القرن" التي أعلَنَها الرَّئيس الأميركيّ الثُّلاثاء الماضي، فكانت بالحقيقة "صفعة" للقضيَّة الفلسطينيَّة، بل ولقرارات منظَّمة الأُمم المتَّحدة ومجلس الأمن المتَّخَذة تباعًا منذ سنة 1948.

 

 

      9. لكنَّ أمين عامّ الأمم المتَّحدة أكَّدَ، بتاريخ 28 كانون الثَّاني، تمسّك الأمانة العامَّة بقرارات مجلس الأمن والجمعيَّة العموميَّة بشأن الدَّولتين، ومساندتها للفلسطينيِّين والإسرائيليِّين في حلّ النِّزاع بينهما على أساس قرارات الأمم المتَّحدة، والقانون الدَّوليّ، والاتِّفاق المتبادل، في ما يختصّ بحلّ الدَّولتين، الإسرائيليَّة والفلسطينيَّة، متعايشتين الواحدة إلى جانب الأخرى بسلامٍ وأمنٍ داخل حدود ما قبل سنة 1967. نأمَل أن تُبادِر الأسرة الدَّوليَّة إلى هذا الإقرار منعًا لنزاعٍ جديد يزيد من الدَّمار وسفك الدِّماء، ولن يسلم لبنان من نتائجه كالعادة.

 

 

      10. نُصلِّي كي يُدرِكَ كلُّ صاحب مسؤوليَّة أنَّه موكَّلٌ على خدمة الجماعة التي تشملها مسؤوليَّته، فيؤدِّي واجبه بأمانةٍ وحكمة من أجل خلاصه الأبديّ. وإنَّا نرفع معًا نشيد المجد والتَّسبيح للثَّالوث القدُّوس، الآب والابن والرُّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.

 

 

 

موقع بكركي