رسالة البابا بمناسبة اليوم العالمي 57 للصلاة من أجل الدعوات «متفرقات

 

 

 

صدرت ظهر الثلاثاء رسالة قداسة البابا فرنسيس بمناسبة اليوم العالمي السابع والخمسين للصلاة من أجل الدعوات كتب فيها في الرابع آب من العام الماضي، في الذكرى المئة والستّين لموت كاهن رعيّة آرس القديس، أردت أن أبعث برسالة إلى الكهنة، الذين يبذلون حياتهم كلّ يوم من أجل الدعوة التي وجهّها السيد المسيح إليهم، لخدمة شعب الله. في تلك المناسبة اخترت أربعَ كلمات أساسية – الألم، وعرفان الجميل، والشجاعة والتسبيح - كي أشكر الكهنة وأشجعهم في خدمتهم. وأعتقد أنه بإمكاننا اليوم، في اليوم العالمي السابع والخمسين للصلاة من أجل الدعوات، أن نعود مجدّدًا إلى هذه الكلمات لنوجّهها إلى شعب الله بأسره، ونحن نتأمل في مقطع من الإنجيل يروي لنا حادثة فريدة حدثت ليسوع وبطرس في ليلةٍ عاصفة في بحيرة طبريّا.

 

 

 

 

 بعد معجزة تكثير الخبز التي أثارت حماس الجموع، أمَر يسوع تلاميذه بأن يركبوا السَّفينةَ ويتقدَّموه إِلى الشَّاطئ المُقابل، فيما يبقى هو ويَصرِف الجُموع. صورة عبور البحيرة تشير نوعًا ما إلى رحلة حياتنا. في الواقع، يتقدم قارب حياتنا ببطء، وبقلق لأنه يبحث عن ميناء يرسو فيه، وهو مستعدّ لتحدّي مخاطر البحر وتقلباته، ولكنه يتوق أيضًا إلى أن يعطيه قائد الدفّة وجهةً جديدة تقوده أخيرًا في الطريق الصحيح. وقد يضِلُّ الطريق أحيانًا، أو قد تبهره الأوهام بدلاً من أن يتبع المنارة التي تقوده إلى بَرّ الأمان، أو قد تواجهه رياح معاكسة من الصعوبات والشكوك والمخاوف. هذا ما يحدث أيضًا في قلب التلاميذ، الذين دعاهم المعلّم الناصري لاتّباعه. عليهم أن يتخذوا قرارهم ويعبروا إلى الشاطئ المقابل، فيختاروا بشجاعة أن يتخلّوا عن مكانهم الآمن ويشرعوا في المسير ليتبعوا الربّ. ليست المغامرة سهلة: حلَّ الليل، وهبّت الريح المعاكسة، والقارب تَلطِمُه الأمواج، وطغى عليهم الخوف من عدم قدرتهم على متابعة طريقهم، ومن كونهم ليسوا على مستوى الدعوة.

 

 

 

 

أضاف الحبر الأعظم يقول لكن، يقول لنا الإنجيل إننا لسنا وحدنا في مغامرة هذه الرحلة الصعبة. فالربّ، الذي يكاد يستبق الفجر في منتصف الليل، يسير على المياه الهائجة ويصل إلى التلاميذ، ويدعو بطرس ليأتي إليه على الأمواج، وينجّيه عندما يراه يغرق، ويركب أخيرًا السفينة ويوقف الريح. وبالتالي فأوّل كلمة للدعوة هي عرفان الجميل. فمهمّة السير باتّجاه الطريق الصحيح لا تعتمد فقط على جهودنا، ولا تعتمد فقط على المسارات التي نختارها. وتحقيق أنفسنا ومشاريع حياتنا، ليس نتيجة لحسابات رياضيّة لما نقرّره في داخل "الأنا" فينا بشكل منفرد؛ بل على العكس. دعوتنا هي قبل كلّ شيء إجابة على دعوة تأتينا من العُلى. الله هو الذي يدلّنا على الشاطئ الذي يجب أن نتّجه إليه، وقبل ذلك هو الذي يعطينا الشجاعة لنركب السفينة. وهو الذي، إذا دعانا، صار قائدَ سفينتنا ورافقنا ودلّنا على الاتّجاه، وحال دون اصطدامنا بصخور التردّد، وجعلنا قادرين حتى على السير على المياه المضطربة.  

 

 

 

 

كلّ دعوة تولد من تلك النظرة الـمُحِبَّة التي لاقانا بها الربّ، وربما لما كان قاربنا في خضمّ العاصفة. "إن الدعوة هي استجابة لنداء مجّاني من قِبَلِ الله أكثر منها خيار منا"؛ لذلك، سوف نكتشفها ونعانقها عندما ينفتح قلبنا على عرفان الجميل ويعرف كيف يُحِسُّ بمرور الله في حياتنا. عندما رأى التلاميذ يسوع يقترب منهم ماشيًا على الماء، ظنّوا أوّلًا أنه خيال وخافوا. لكن يسوع طمأنهم في الحال بكلمة يجب أن ترافق دائمًا حياتنا ومسيرة دعوتنا: "تشجّعوا. أَنا هو، لا تَخافوا!". هذه هي بالتحديد الكلمة الثانية التي أودّ أن أسلمكم إياها: تشجّعوا. إن ما يمنعنا غالبًا من السير، والنموّ، واختيار الدرب الذي يرسمه الربّ لنا هي الأشباح التي تتخبّط في قلوبنا. عندما نُدعى لترك شاطئنا الآمن لمعانقة حالة من الحياة -مثل الزواج، والكهنوت، والحياة المكرّسة- أول ردة فعل فينا غالبًا هي "شبح عدم الإيمان": من المستحيل أن تكون هذه الدعوة لي؛ هل هذا هو حقّا الطريق الصحيح؟ أهذا هو بالتحديد ما يطلبه الله مني؟

 

 

 

 

وتكبر تدريجيًّا كلُّ تلك المخاوف، وتلك المبرّرات والحسابات التي تجعلنا نفقد الاندفاع، وتربكنا فنصاب بالشلل ونحن ما زلنا على الشاطئ في بداية الرحلة: نظنّ أننا ارتكبنا خطأً، وأننا دون المستوى، وأننا قد رأينا شبحًا يجب طرده. يعلم الله أن خيارًا أساسيًّا في الحياة -مثل الزواج أو تكريس الذات بطريقة خاصّة في خدمته- يتطلّب الشجاعة. إنه يعرف الأسئلة والشكوك والصعوبات التي تلطم زوارق قلوبنا، ولذلك هو يطمئننا قائلاً: "لا تخف، أنا معك!". إن الإيمان بحضوره، هو الذي يأتي إلينا ويرافقنا، حتى عندما يكون البحر عاصفًا، يحرّرنا من ذاك الفتور الذي سبق لي أن حدّدته على أنه "حالة عذبة من الجمود". إنه إحباط داخلي يُعيقنا، ولا يسمح لنا بتذوّق جمال الدعوة.

 

 

 

 

تحدّثت أيضًا في الرسالة إلى الكهنة عن الألم، ولكنني أودّ هنا ترجمة هذه الكلمة بشكل مختلف وأتكلم على التعب. كلّ دعوة فيها التزام. يدعونا الله لأنه يريد أن يجعلنا مثل بطرس، قادرين على "السير على المياه"، أي على أن نأخذ حياتنا بيدنا كي نضعها في خدمة الإنجيل، بالطرق العملية واليومية التي يحدّدها لنا، وخاصّة في مختلف أشكال الدعوات العلمانية والكهنوتية وفي الحياة المكرّسة. لكننا نشبه الرسول: لدينا الرغبة والاندفاع، لكن في الوقت نفسه، لدينا نقاط ضعف ومخاوف. إن تركنا أنفسنا وطغا علينا التفكير في المسؤوليّات التي تنتظرنا -في الحياة الزوجيّة أو في الخدمة الكهنوتية- أو إن فكَّرْنا في الصعاب التي ستواجهنا، سُنبعِد بسرعة نظرنا عن يسوع، وقد نغرق على غرار بطرس. لكن الإيمان، على الرغم من نقاط ضعفنا وفقرنا، يسمح لنا بالسير نحو الربّ القائم من الموت والتغلّب أيضًا على العواصف. فهو في الواقع، يمدّ يده إلينا عندما نواجه خطر الغرق، بسبب التعب أو الخوف، ويغمرنا بالاندفاع الضروري لنعيش رسالتنا بفرح وحماس.

 

 

 

أخيرًا، عندما ركب يسوع السفينة، توقّفت الرياح وهدأت الأمواج. إنها صورة جميلة لما يصنعه يسوع المسيح في حياتنا وفي اضطرابات التاريخ، خاصّة عندما نكون في العاصفة: فهو يأمر الرياح المعاكسة بأن تصمت، فلن تقوى علينا بعد الآن قوى الشرّ والخوف والاستسلام. قد تهبّ هذه الرياح علينا في الدعوة الخاصّة التي دُعينا لعيشها. أفكّر في الذين يحملون مسؤوليات مهمّة في المجتمع المدني، والأزواج الذين أحبّ أن أسمّيهم، لا عن طريق الصدفة، "الشجعان"، وخاصّة الذين يعتنقون الحياة المكرّسة والكهنوت. أعرف تعبكم، والوحدة التي تثقل قلبكم أحيانًا، وخطر التعوّد الذي يطفئ شيئًا فشيئًا نار الدعوة المشتعلة، والحمل الثقيل الذي يشكله عدم اليقين وعدم الاستقرار في عصرنا، والخوف من المستقبل. تشجّعوا، لا تخافوا! يسوع بجانبنا، وإذا اعترفنا به الرب الأوحد لحياتنا، فهو يمدّ إلينا يده ويمسك بنا لينقذنا. حينها، وحتى في خضمّ الأمواج، تنفتح حياتنا على التسبيح. هذه الكلمة الأخيرة للدعوة، وأريدها أن تكون أيضًا دعوة لأن ننمّي فينا مثل الاستعداد الداخلي لمريم الكلّية القداسة: ممتنّة لنظرة الله التي استقرت عليها، أسلمت مخاوفها واضطراباتها للإيمان، واعتنقت دعوتها بشجاعة، وجعلت حياتها ترنيمةَ تسبيحٍ أبديٍّ للربّ.

 

 

 

 أصدقائي الأعزّاء، في هذا اليوم بشكل خاصّ، ولكن أيضًا في عمل جماعاتنا الراعوي الاعتيادي، أريد من الكنيسة أن تقوم بهذه المسيرة في خدمة الدعوات، وتفتح ثغرات في قلب كلّ مؤمن، حتى يتمكّن كلّ واحد من أن يكتشف شاكرًا الدعوة التي يوجهّها الله إليه. ويجد الشجاعة ليقول "نعم"، ويتغلّب على التعب بقوة إيمانه بالمسيح، ويقدّم أخيرًا حياته كترنيمة تسبيح لله، من أجل الإخوة والعالم بأسره. لترافقنا العذراء مريم وتتشفّع لنا.

 

 

 

 

إذاعة الفاتيكان.