تأمُّلٌ للبطريرك في إفتتاحيَّة تساعيَّة الميلاد «متفرقات

 

 

 

1. في بِدَايَةِ تِسَاعِيَّةِ المِيلَادِ التي تَرمُزُ إلى مَسِيرَةِ الأجيالِ وتَوْقِهَا إِلَيْكَ، أَيُّهَا المَسِيحُ الرَّبّ، أَتَينَا إِلَى الجَامِعَةِ الأَنْطُونِيَّةِ هَذِهِ، وَعَلَى رَأسِ الجَمِيعِ فَخَامَةُ رَئِيسِ الجُمْهُورِيَّةِ، مَعَ مَنْ يَحُوطُ بهِ مِنْ مَسؤولينَ سِياسيِّينَ ومَدَنيِّين، وَمَعَ أَسَاقِفَةٍ ورُهبَانٍ، وأُسْرَةِ الجَامِعَة.

 

 

 

أتَينَا لِنَسْجُدَ لَكَ في سِرِّ القُربَان الذي يَتَواصَلُ فيهِ سِرُّ تَجَسُّدِكَ في مِذوَدِ بيتَ لَحْم. أتَينَا لِنَتَأمَّلَ في سِرِّ تَوَاضُعِكَ، أَنْتَ الإلَهُ الذي أَخلَيْتَ ذاتَكَ وعَرْشَكَ الإلَهِيّ وتَوَاضَعْتَ وَصِرْتَ إنسَانًا مِثلَنا، لتَتَضَامَنَ مَعَ كُلِّ إنسَانٍ وتُرافِقَهُ في رِحلَةِ حيَاتِهِ، تُنِيرُهَا بِكَلِمَتِكَ، وتُقدِّسُهَا بِنِعمَتِكَ، وَتُجّدِّدُهَا بِرُوحِكَ القُدُّوس، فكُنتَ عِمَّانُوئيلَ "إلَهَنَا مَعَنَا"، ولتعلِّمَنَا التَّوَاضُعَ والنُّزولَ عَنْ عَرْشِ الأنَانِيَّةِ والكِبْرِياء والمَصلَحَةِ الذَّاتِيَّةِ، والمَوقِفِ المُتَحَجِّرِ، وَالرَّأيِ المُستَبِدِّ.

 

 

 

أتَينَا لِنَدخُلَ في مَدرَسَتِكَ، مَدرَسَةِ الحُبِّ الذي حمَلَكَ إلينا، فافتدَيتَنا بذَبِيحَةِ ذاتِكَ حُرًّا على الصَّليبِ، وأَعْطَيتَنا رُوحَ قِيامَتِكَ لِحَياةٍ جَدِيدَة؛ وَوَاصَلْتَ سِرَّ حُضُورِكَ مَعَنَا بِكَلِمَةِ الإِنْجِيل، وَبِخُبْزِ جَسَدِكَ وَدَمِكَ، لِكَي تُولَدَ فينا.

 

 

أتَينَا لِنُعْلِنَ التِزامَنَا بِمَا مِنْ أَجلِنَا صِرْتَ إِنسَانًا: لَقَدْ أَخَذْتَ جسَدًا بَشَرِيًّا مِن مَريَمَ التي حَمَلَتْكَ في أَحشَائِهَا، وَتُرِيدُ أنْ يَحمِلَكَ كلُّ وَاحِدٍ وَوَاحِدَةٍ مِنَّا بِحُبٍّ في قَلبِهِ. فَنَكُونَ مثلَهَا سُعَدَاءً بِالسَّهَرِ عَلَى حَمْلِكَ بِدُونِ انقِطَاعٍ في قَلْبِنَا. هِيَ قدَّمتْكَ لحَياةِ العَالَم كُلِّه، ونَحنُ، بِأَعمَالِنَا وَتَصَرُّفاتِنَا وَمَوَاقِفنِا وَمُبَادَرَاتِنَا، نُقدِّمُكَ لحياةِ وطنِنَا لِكَي يَنْمُوَ، وَشَعْبِنَا لِكَي يَكُونَ سَعِيدًا.

 

 

 

2. لَقَد إِخْتَرْتَ أَنْ تُولَدَ فِي مِذوَدٍ حَقِيرٍ، لِأَنَّ القُصُورَ المُمتَلِئَةَ مِنْ ذَاتِهَا وَأَنَانِيَّتِهَا وَكِبْرِيَائِهَا تَضِيقُ، عَلَى سِعَتِهَا، لِتُقدِّمَ لَكَ مَكَانًا لاستِقبَالِكَ، خَوفًا مِن نُورِكَ لِئَلاَّ تَكشِفَ عَورَاتِهَا، وَهِيَ لا تُريدُ أَنْ تُشفَى مِنهَا. هِيرُودُسُ أمَرَ بِقَتلِكَ بَينَ جَميعِ أَطفَالِ بَيتَ لَحْم، خَوفًا على عَرْشِهِ البَائِد، فَكانَتْ أَوَّلَ إبادةٍ تَارِيخيَّةٍ للطُّفولةِ. أمَّا الرُّعَاةُ الفُقَرَاءُ فَسَارَعُوا إِلَى مِذوَدِكَ يَحْمِلُونَ هَدَايَاهُم: لَكَ التَّسْبِيحَ والحَمَلَ الرَّضِيعَ يَا مَنْ سَتُصْبِحُ حَمَلَ الفِصْحِ الذَّبِيحَ، وَلِأبِيكَ يُوسُفَ لَحْمًا، وَلِأُمِّكَ مَريَمَ حَلِيبًا (مار أفرام السُّريانيّ). وَكَذَلِكَ المَجُوسُ عُلَمَاءُ الفَلَكِ الأَغنِياءُ، أَتَوا مِنْ المَشرِقِ البَعِيد حَامِلِينَ هُمْ أَيْضًا هَدَايَاهُمُ النَّبَويَّةَ: الذَّهَبُ للمَلِكِ، والبَخُورُ لِلكَاهِنِ، والمُرُّ للذَّبِيحِ الفَادِي. أَلمِذْوَدُ قَدَّمَ لَكَ التِّبنَ سَرِيرًا، وَالبَهَائِمُ الدِّفءَ والحَرَارَةَ. أَمَّا يُوسُفُ وَمَريَمُ فأَحَاطُوكَ بِكَبِيرِ الحُبِّ وَالحَنَانِ، وَالمَلَاكُ أَعْلَنَ بُشْرَاكَ لِلعَالَمِ أَجمَع، وَأَجوَاقُ السَّمَاءِ أَنشَدَتِ "المَجْدَ لله فِي العُلَى وَالسَّلَامَ عَلَى الأَرْضِ" (لو14:2). وَنَحْنُ، مَاذا تُرَانَا نُقَدِّمُ لَكَ مِنْ صَمِيمِ القَلْب؟ نُقَدِّمُ أَعمالَ المَحَبَّةِ للفُقَراءِ وَلِلعَائِلاتِ المُعوِزة، وَشَدَّ أَوَاصرِ وَحدَةِ شَعْبِنَا المُتَمَثِّلَةِ في انتِفَاضَتِهِ التي نَرجُو لَهَا النَّجَاحَ في مَطَالِبِهَا مِنْ أَجْلِ وِلادَةِ لُبنانَ الجَدِيد، بَعْدَ مِئَةِ عَامٍ عَلَى إِعْلانِ دَوْلَتِهِ بِكُلِّ حُدُودِهَا، وَهَوِيَّتِها المُمَيَّزَة.

 

 

 

 

3. يَا رَبُّ، أَمَامَ حُضُورِكَ مَعَنَا فِي سِرِّ القُرْبَانِ الذي يُوَاصِلُ سِرَّ تَجَسُّدِكَ، نَخشَعُ ونَسْجُدُ ونَعْبُدُ. إنَّا نَسْتَوْدِعُ مَحَبَّةَ قَلبِكَ مَصِيرَ وَطَنِنَا لُبنَانَ المُتَهَاوي وَالمُتَزَعْزِعِ، الذي تَتَقاذَفُهُ الرِّيَاحُ العَتِيَّةُ والأَموَاجُ الهَائِجَةُ سِيَاسِيًّا واقْتِصَادِيًّا وَمَالِيًّا وَمَعِيشِيًّا، كَسَفِينَةٍ فِي عُرْضِ البَحْرِ، وَكَأنَّها أَضَاعَتْ فَوْقَ ذَلِكَ بُوصْلَتَهَا، التي هِيَ الدُّسْتُورُ والمِيثَاقُ الوَطَنيُّ المُتَجَدِّدُ في "وَثِيقةِ الوِفَاقِ الوَطَنِيِّ".

 

 

 

إِنَّنَا نُصَلِّي مِنْ أَجْلِ رُبَّانِها، فَخَامَةِ رَئِيسِ الجُمهُورِيَّةِ، وَالمَسؤُولِينَ مَعَهُ فِي المَجلِسِ النِّيَابِيِّ وَالحُكُومَةِ أَمَامَ اللهِ والشَّعْبِ، لِكَي بِرُوحِ المَسؤُولِيَّةِ وَالتَّجَرُّدِ، يُجْرُوا غَدًا الاِسْتِشَارَاتِ النِّيابِيَّةِ بِنَجَاحٍ، يَتَفانَوْا فِي سَبِيلِ إِيجَادِ الحَلِّ السَّرِيعِ لِتَشْكِيلِ حُكُومَةٍ تَتَمَتَّعُ بِالمِصْدَاقِيَّةِ وَالثِّقَةِ وَالفَاعِليَّةِ، وَالقُدْرَةِ عَلَى مُوَاجَهَةِ التَّحَدِّيَاتِ الاقتِصَادِيَّةِ والمَالِيَّةِ والمَعِيشِيَّةِ. فَلْتَكُنْ وِلادَةُ الحُكُومَةِ الجَدِيدَةِ، فِي ذِكرَى مِيلَادِكَ الذي أَبْهَجَ السَّمَاءَ والأرضَ، هَدِيَّةً مِيلادِيَّةً، وَتَردَادًا لِصَدَى نَشِيدِ المَلَائِكَةِ في لَيْلِ بَيْتَ لَحْم المُسْتَنِيرِ بِنُورِكَ: "أَلمَجْدُ للهِ فِي العُلَى، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلَامُ لِبَنِي البَشَر" (لو14:2). آمين!

 

 

 

موقع بكركي