الكنيسة هي أمّ قلبها مفتوح «متفرقات




الكنيسة هي أمّ قلبها مفتوح



ترأس قداسة البابا فرنسيس صباح الأحد بالتّوقيت المحليّ القدّاس الإلهيّ في ساحة نيو غوازو في أسونسيون، وألقى الأب الأقدس عظة قال فيها:


"إن الربّ يعطينا المطر وأرضنا تُعطي ثمرها" هكذا يقول المزمور؛ وهذا ما دُعينا لنحتفل به، هذه الشّركة السريّة بين الله وشعبه، بين الله وبيننا. المطر هو علامة حضوره في الأرض التي نحرثها بأيدينا. شركة تعطي ثمارًا على الدّوام، وتعطي حياة على الدّوام. هذه الثّقة تولد من الإيمان ومن معرفة أنّه بإمكاننا الإتّكال على نعمته التي تحوّل أرضنا وترويها على الدّوام.


ثقة نتعلّمها ونتربّى عليها. ثقة تتكوَّن في قلب جماعة، في حياة العائلة. ثقة تتحوّل إلى شهادة في وجوه العديد الذين يحثّوننا على أن نتّبع يسوع ونكون تلاميذًا لذاك الذي لا يخيّبنا أبدًا. فالتلميذ يشعر بأنه مدعوّ للثقة، يشعر بأنّه مدعوّ من قِبَل يسوع ليكون صديقًا ويتشارك مصيره وحياته. "لا أَدعوكم خَدَماً بعدَ اليَوم لأنَّ الخادِمَ لا يَعلَمُ ما يَعمَلُ سَيِّدُه. فَقَد دَعَوتُكم أَحِبَّائي لأَنِّي أَطلَعتُكم على كُلِّ ما سَمِعتُه مِن أَبي". فالتّلاميذ هم الذين يتعلّمون العيش بثقة الصداقة.


يحدّثنا الإنجيل عن هذا التّتلمذ. ويقدّم لنا هويّة المسيحيّ. يسوع يدعو تلاميذه ويرسلهم ويعطيهم قواعد واضحة ودقيقة. يحثّهم على التحلّي بسلسلة من التّصرفات والمواقف وغالبًا ما تبدو مُبالغ فيها أو غير منطقيّة، مواقف تسهل قراءتها رمزيًّا أو "روحيًّا". لكن يسوع واضح ودقيق. ولا يقول لهم: إفعلوا ما تريدون  أو إفعلوا ما باستطاعتكم.


لنتذكّرها معًا: "لا تَحمِلوا لِلطَّريقِ شَيئاً، لا عصاً ولا مِزوَداً ولا خُبزاً ولا مالاً... وأَيَّ بَيتٍ دَخَلتُم، فأَقيموا فيه" قد يبدو لنا أمرًا مستحيلا.


يمكننا أن نركّز تأمّلنا على الكلمات: "خبز"، "مال"، "مزود"، "عصا"، "حذاء"، "قميص" وهذا أمر عادل. لكن يبدو لي أنّ هناك كلمة أساسيّة قد نكون قد أغفلنا عنها. كلمة جوهريّة في الروحانيّة المسيحيّة وفي خبرة التّـتلمذ: الضّيافة. فيسوع كمعلّم صالح ومربّي يرسلهم لعيش الضّيافة. يقول لهم: "وأَيَّ بَيتٍ دَخَلتُم، فأَقيموا فيه". يرسلهم ليتعلّموا إحدى الميزات الجوهريّة في جماعة المؤمنين. يمكننا القول إن المسيحيّ هو الذي تعلَّم الضيافة والإستقبال.


يسوع لا يرسلهم كأقوياء وأسياد ورؤساء يحملون قوانين وقواعد؛ بل على العكس يُظهر لهم أن المسيرة المسيحيّة هي تبدُّل القلب. أن نتعلّم أن نعيش بأسلوب آخر، بشريعة أخرى وتحت قاعدة أخرى. إنه انتقال من منطق الكبرياء والإنغلاق والنزاع والإنقسام والتّعالي إلى منطق الحياة والإمتنان والحبّ. من منطق السيطرة والقمع والغش إلى منطق القبول والإعتناء بالآخر.


هناك منطقان، أسلوبان لمواجهة الحياة والرسالة.


كم من مرّة نفكّر بالرّسالة على أساس مشاريع أو برامج. كم من مرّة نتخيّل البشارة حول ألف إستراتيجيّة وأسلوب وخطّة وخدعة ونحاول أن نجعل الأشخاص يرتدّون بناء على ذرائعنا. لكن الرّبّ يقول لنا اليوم بوضوح: في منطق الإنجيل لا يمكننا أن نقنع الأشخاص بواسطة الذرائع والإستراتيجيّات والأساليب وإنّما من خلال تعلُّم الضيافة.


الكنيسة هي أمٌّ قلبها مفتوح تعرف كيف تقبل وتستقبل، لاسيما الذين يحتاجون لعناية كبيرة ويعانون من صعوبات كبيرة. الكنيسة هي بيت الضّيافة. ما أكبر الخير الذي يمكننا تحقيقه إن تشجّعنا لتعلّم لغة الضّيافة والإستقبال. كم من الجراح وكم من اليأس يمكننا أن نشفيها في بيت يمكن للمرء أن يشعر فيه بأنّه مقبول.

الضّيافة مع الجائع والعطشان والغريب والعريان والمريض والسّجين (متى 25، 34- 37) مع الأبرص والمُقعد. ضيافة مع الذي لا يفكِّر مثلنا، والذي لا يؤمن أو فقد إيمانه. ضيافة مع المُضطَهد والعاطل عن العمل. ضيافة مع الثقافات المختلفة التي تغتني بها هذه الأرض. ضيافة مع الخاطئ.


غالبًا ما ننسى أنّ هناك شرًّا يسبق خطايانا. هناك مصدر يسبب الكثير من الأذى ويدمِّر بصمت العديد من الأرواح. هناك شرٌّ، يبني، شيئًا فشيئًا، عشًا في قلبنا و"يأكل" حيويّتنا: وهو الوحدة. وحدة أسبابها عديدة ودوافعها كثيرة. وكم من الدمار تسبّب في حياتنا وكم من الشرّ تسبّب لنا. تبعدنا عن الآخرين والله والجماعة وتغلقنا على أنفسنا. لذلك فليس من طبيعة الكنيسة، هذه الأمّ، أن تتولى إدارة أشياء ومشاريع وإنّما أن تعلّم عيش الأخوّة مع الآخرين. فالإخوّة المضيافة هي أفضل شهادة بأنّ الله هو أب لأنّه "إذا أَحَبَّ بَعضُكُم بَعضاً عَرَف النَّاسُ جَميعاً أَنَّكُم تَلاميذي" (يوحنا 13، 35).


بهذه الطريقة يفتحنا يسوع على منطق جديد. أفق مليء بالحياة والجمال والحقيقة والكمال.

فالله لا يغلق الآفاق أبدًا، الله لا يتجاهل أبدًا حياة وألم أبنائه. الله هو الأكرم على الدوام. لذلك أرسل لنا إبنه، يعطيه ويسلمه ويقاسمه؛ لكي نتعلّم مسيرة الأخوّة والعطاء. إنه بالتّأكيد أفق جديد وكلمة جديدة للعديد من حالات الإقصاء والتفكّك والإنغلاق والعزلة. إنّها كلمة تكسر الصّمت والوحدة.


وعندما نتعب وتصبح البشارة حملاً لنا من الجيد أن نتذكّر أن الحياة التي يقدّمها لنا يسوع تُجيب على أعمق حاجات الأشخاص لأننا خُلقنا جميعًا من أجل الصداقة مع يسوع والمحبّة الأخويّة (فرح الإنجيل، عدد 265).

هناك أمر أكيد وهو أنّه لا يمكننا أن نفرض على أحد أن يستقبلنا ويستضيفنا، إنه بالتأكيد جزء من فقرنا وحريّتنا. لكن لا يمكن لأحد أيضًا أن يفرض علينا ألا نقبل حياة شعبنا.


لا يمكن لأحد أن يطلب منا ألاّ نقبل ونعانق حياة إخوتنا لاسيّما أولئك الذين فقدوا الرّجاء والرّغبة بالعيش. كم من الجميل أن نتصوّر رعايانا وجماعاتنا وكنائسنا، الأماكن التي يقيم فيها المسيحيّون، كمراكز لقاء حقيقيّة بيننا وبين الله.


الكنيسة هي أمٌّ كمريم. نجد فيها مثلاً لنا. القبول، على مثال مريم، التي لم تتسلّط ولم تستحوذ على كلمة الله، بل على العكس، قبلتها وحملت بها وأعطتها.


القبول على مثال الأرض التي لا تسيطر على البذار بل تقبلها وتغذّيها وتجعلها تنبت.

هكذا نريد نحن المسيحيّين أن نكون، هكذا نريد أن نعيش الإيمان في أرض الباراغواي، كمريم، نقبل حياة الله في إخوتنا بالثقة واليقين بأنّ "الرّبّ يعطينا المطر وأرضنا تعطي ثمرها". 


إذاعة الفاتيكان