عيد دخول الرب يسوع إلى الهيكل «الإنجيل

 

 

 

إنجيل لوقا (2/ 22- 35)

 

عيد دخول الربّ يسوع إلى الهيكل

 

ولَمَّا تَمَّتْ أَيَّامُ تَطْهِير يُوسُفَ ومَريَمَ بِحَسَبِ تَورَاةِ مُوسَى، صَعِدَا بِهِ إِلى أُورَشَلِيمَ لِيُقَدِّماهُ للرَّبّ،

 

كمَا هُوَ مَكْتُوبٌ في شَرِيعَةِ الرَّبّ: «كُلُّ ذَكَرٍ فَاتِحِ رَحِمٍ يُدْعَى مُقَدَّسًا لِلرَّبّ»،

 

ولِكَي يُقدِّمَا ذَبِيحَة، كَمَا وَرَدَ في شَرِيعَةِ الرَّبّ: «زَوجَيْ يَمَام، أَو فَرْخَيْ حَمَام».

 

وكانَ في أُورَشَلِيمَ رَجُلٌ ٱسْمُهُ سِمْعَان. وكانَ هذَا الرَّجُلُ بَارًّا تَقِيًّا، يَنْتَظِرُ عَزَاءَ إِسْرَائِيل، والرُّوحُ القُدُسُ

 

كانَ عَلَيْه.

 

وكانَ الرُّوحُ القُدُسُ قَدْ أَوْحَى إِلَيْهِ أَنَّهُ لَنْ يَرَى المَوْتَ قَبْلَ أَنْ يَرَى مَسِيحَ الرَّبّ.

 

فجَاءَ بِدَافِعٍ مِنَ الرُّوحِ إِلى الهَيْكَل. وعِنْدَما دَخَلَ بِٱلصَّبِيِّ يَسُوعَ أَبَوَاه، لِيَقُومَا بِمَا تَفْرِضُهُ التَّورَاةُ في

 

شَأْنِهِ،

 

حَمَلَهُ سِمْعَانُ على ذِرَاعَيْه، وبَارَكَ اللهَ وقَال:

 

«أَلآنَ تُطْلِقُ عَبْدَكَ بِسَلام، أَيُّهَا السَّيِّد، بِحَسَبِ قَولِكَ، لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ أَبْصَرَتا خَلاصَكَ، الَّذِي أَعْدَدْتَهُ أَمَامَ

 

الشُّعُوبِ كُلِّهَا، نُوْرًا يَنْجَلي لِلأُمَم، ومَجْدًا لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيل!.»

 

وكانَ أَبُوهُ وأُمُّهُ يَتَعَجَّبَانِ مِمَّا يُقَالُ فِيه.

 

وبَارَكَهُمَا سِمْعَان، وقَالَ لِمَرْيَمَ أُمِّهِ: «هَا إنَّ هذَا الطِّفْلَ قَدْ جُعِلَ لِسُقُوطِ ونُهُوضِ كَثِيرينَ في إِسْرَائِيل،

 

وآيَةً لِلخِصَام. وأَنْتِ أَيْضًا، سَيَجُوزُ في نَفْسِكِ سَيْف، فتَنْجَلي خَفَايَا قُلُوبٍ كَثيرَة».

 

 

 

تأمل  (لمزيد من الإستنارة الروحيّة قراءته طوال الأسبوع بتمهّل).

 

هو عيد دخول المسيح الى الهيكل، هو يوم الصلاة من أجل المكرّسين والمكرّسات الّذين وقفوا حياتهم لخدمة الرّب والكنيسة. حضور يسوع الى الهيكل هو حضوره في بيت الآب، حيث سوف يرغب في البقاء يوم يزور الهيكل مع أهله حين يبلغ الثانية عشرة. هو الإعتلان الأوّل لمسيحانيّة يسوع، على لسان شيخ اسرائيليّ، لا نعرف من هوّيته سوى اسمه فحسب. هداهُ الرّوح القدس فجاء الهيكل يبارك الله.

 

 تَطهيرِهِمَا

 

نقرأ في سفر اللاّوييّن:  "أية امرأة حبلت فولدت ذكرًا تكون نجسة سبعة أيَّام، كأيَّام طمثها تكون أيَّام نجاستها، وفي اليوم الثامن تُختن قلفة المولود، وثلاثة وثلاثين يومًا تظلُّ في تطهير دمها. لا تمس شيئًا من الأقداس ولا تدخل المقدس، حتى تتمّ أيَّام طهرها. فإن ولدت أنثى، تكون نجسة أسبوعين كما في طمثها، وستة وستين يومًا تظل في تطهير دمها.

 

وعند اكتمال أيّام طهرها، لذكر كان أو لأنثى، تأتي بحمل إلى المحرقة، وبفرخ حمام أو بيمامة ذبيحة خطيئة، إلى باب خيمة الموعد، إلى الكاهن. فيقرّبهما أمام الرَّبّ ويكفّر عن المرأة، فتطهر من سيلان دمها. هذه شريعة الوالدة ذكرًا وأنثى. فإن لم يكن في يدها ثمن حمل، فلتأخذ زوجَي يمام أو فرخَي حمام، أحدهما محرقة والآخر ذبيحة خطيئة، فيكفر عنها الكاهن فتطهر". (لا ١٢: ٢-٨).

 

بحسب ما قرأنا في سفر اللاْويِّين، نستنتج أن التطهير لم يكن تطهير يسوع، بل هو تطهير مريم، أي إعادة قبولها في حياة الجماعة المصليّة بعد أن ولدت ابنها. "أيَّام النجاسة" التي يتكلّم عنها سفر اللاْويِّين، ليس سببها ولادة الطفل، بل فقدان الدِّماء. بالنسبة إلى اليهود الأقدمين، كانت الدِّماء تحوي نفس الإنسان وحياته، وفقدانها كان يعني فقدان الحياة، وبالتالي كان يقتضي التطهّر وقبول بركة الله قبل العودة من جديد إلى حياة العبادة.

 

مريم، ابنة صهيون الوفيّة، خضعت لهذه القاعدة أيضًا، ذهبت إلى الكاهن، وقدّمت ما تقتضيه شريعة موسى من تقادم من أجل تطهيرها.  ولكن لوقا يقول "أَيَّامُ تَطهيرِهِمَا"، ممّا يعكس عدم معرفة الكاتب بالعادات والتقاليد اليهوديّة، فهو ليس يهوديّ على الأرجح، لذلك اختلط عليه تطهير الأمّ وختانة الطفل: ففي اليوم الثامن يتمّ كلاهما، تتطهّر الأمّ والدة الصبّي، ويدخل الطفل في العهد مع الله ليصبح من عداد الشَّعب المختار، من خلال العلامة الجسديّة التي يمليها العهد القديم. 

 

كُلُّ ذَكَرٍ فَاتِحِ رَحِمٍ يُدْعَى مُقَدَّسًا لِلرَبّ:

 

يقول سفر الخروج: "قدِّس لي كُلَّ بكرٍ، كُلَّ فاتح رحمٍ من بني إسرائيل، مِنَ الناس والبهائِم، إنَّهُ لي" (خر ١٣: ٢). ويقول أيضًا: "تعزل للرَّبِّ كُلَّ فاتحِ رحمٍ وكُلَّ أوَّل نتاج من البهائِمِ التي لكَ: الذُكور للرَّبّ". (خر ١٣: ١٢).

 

إنّ القداسة في العهد القديم لا تعني فقط الناحية الرّوحيّة، وهي لا تعني ما نفهمه نحن اليوم حين نقول "قدّيس" أو "طوباويّ" بالمفهوم المسيحيّ. القدّيس في الكتاب المقدّس هو الكائن الّذي فُصل ليكون بكلّيته لله. فالله هو "القدّوس"، أي المنفصل بطبيعته عنّا، لأنّه يختلف عنّا بالطبيعة الإلهيّة. والنبيّ كان يقدّس، أي يُفصل، والملك أيضًا كان يُفصل، ويكرّس ليكون مسيح الرّب. كلّ فاتح رحمٍ في إسرائيل هو قدّوس، أي مفصول لله، موضوع في خدمة الرّب، لعلّه يكون المسيح المنتظر.

 

واليوم، بحلول يسوع في هيكل أورشليم، تمتّ النبوءة وانتهى زمن الإنتظار: لقد وصل قدّوس الله، دخل أورشليم، خاضعًا للشريعة، متمِّمًا شريعة الختان للدخول في شعب الله، مع أمّه التي تخضع للشريعة بدورها وتقبل التطهير.

 

أهميّة الولد البكر في لاهوت العهد القديم تجد جذورها في حدث الخروج من مصر، الحدث المحورّي في إعطاء شعب إسرائيل هوّيته. حين قاد الرّب شعبه من أرض العبوديّة وأعاده الى أرض الميعاد. حدث الخروج هو حدث عزيز على قلب كلّ واحد من شعب الله المختار، لأنّه حدث التحرير، لأنّه تجديد للعهد، يعلن الله من خلال هذا التحرير قدرته على إعطاء الحرّية للإنسان، الحرّية الحقّة، مهما بلغ كبرياء الطغاة المتسلّطين.

 

بهذا المعنى نقرأ سفر الخروج يقول: "ولمَّا تصلب فرعون عن إطلاقنا، قتل الربّ كلَّ بكرٍ في أرض مصر، من بكر الإنسان إلى بكر البهيمة، ولذلك أنا أذبح للرَّبِّ كلَّ فاتح رحم من الذكور، كل بكر من بنيَّ أفديه. فيكون علامة على يدك وعصابة بين عينيك، لأن الربَّ بيدٍ قويَّةٍ أخرجنا من مصر". (خر ١٣: ١٥ - ١٦).

 

هكذا يصبح دخول المسيح إلى الهيكل اكتمال وتحقّق لحدث الخروج: لقد وصل موسى الجديد يقود شعبه على درب الحرِّيّة، ويعيده من غربة الخطيئة الى حالة البنوّة. من خلال المسيح، ندخل كلّنا في العهد مع الله من جديد.

 

"زَوْجَيْ يَمَام، أَو فَرْخَيْ حَمَام"

 

هي تقادم تطهير الفقراء، لا عن الولد، لكن عن أمّه كما أشرنا سابقًا. يشدّد لوقا هنا، كما في أناجيل الطفولة، على فقر هذه العائلة. التشديد على فقر عائلة الناصرة ليس له دافع عاطفيّ، بل روحيّ لاهوتيّ: هي حالتنا الإنسانيّة الفقيرة، هو فقر إنسانيّتنا بجوهرها وببعدها الوجوديّ. ولكنّه فقر لا يمنعنا من الدخول في لقاء المختلف، في لقاء الغني المُطلق، الله. لا بل بالعكس، يصبح هذا الفقر شرطًا أساسيًّا للدخول في علاقة مع الله: هي حالة التخلّي التي نعتنقها، لنذهب إلى لقاء إله أخلى ذاته واتّحد بحالتنا المائتة.

 

لندخل في علاقة مع هذا الإله، لا بدّ من أن نكون فقراء، نفتقر عن كبريائنا، وعن أنانيْتنا، وعن بحثنا عن ضمانات ماديّة وعالميّة. نتخلّى عن شهواتنا، وعن ملذّات هذا العالم، نتخلّى عن مخطْطاتنا الخاصّة حين تتعارض مع مخطّطات الله لنا. نضع الله في أولويات حياتنا، نفتقر عن أنفسنا لنغتني بالله. هذا الفقر أيضًا لا يمنعنا من إعطاء الله ما نملك: قيمة العطاء هو أن نعطي ما نحتاج اليه، لا ما يفيض عنّا.

 

هذه العائلة الفقيرة قدّمت تقدمة الفقراء، لم تقدّم التقدمة الأساسيّة أي "حمل ابن عام"، ولكنّها قدّمت ما استطاعت: هو ما يطلبه الله منّا، أن نعطيه أغلى ما نملك، أن نعطيه قلبنا. هو لا يطلب المستحيل، بل ينتظر منّا أن نعطيه ما نملك، لأنّ كلّ ما نملك هو عطيّة منه.

 

إن كانت الكنيسة تحتفل هذا النهار بيوم المكرّسين، وتصلّي من أجل من كرّسوا أنفسهم لله، فلأنّهم على مثال المسيح صاروا بأكملهم ملكه، ولكن أيضاً لأنّهم علموا أن فقر عائلة الناصرة هو السبيل الأسرع للإتّحاد بالله، للإغتناء به، وكانت لهم شجاعة الإفتقار عن مشاريعهم وأحلامهم ومخطّطاتهم، ليجعلوا من وجودهم بأسره خدمة لله وللإنجيل. علموا أن الله يطلب منهم أن يقدّموا ما يملكون، فكانت حياتهم أثمن تقدمة، عطيّة الله الثمينة لهم، يضعونها في تصرّفه المطلق.

 

سمعان، المنقاد للّروح

 

 

يقدّم الإنجيليّ مواصفات عدّة لهذا الشيخ الّذي لا نعرف عنه الكثير: بَارًّا، تَقِيًّا، يَنْتَظِرُ عَزَاءَ إِسْرَائِيل، والرُوحُ القُدُسُ كانَ عَلَيْه. لم يختر الإنجيليّ مواصفات سمعان بالصدفة، بل وضع بعناية مواصفات ترتبط دون شكّ بالشيخ الأورشليميّ: لا نعرف من هو، ولا ماذا يفعل، ولا إلى أيّة قبيلة ينتمي، جلّ ما نعرفه هو أنّه:

 

بارّ

 

صفة ترتبط بالناموس، بالكتاب المقدّس وبالمحافظة على وصايا الله. هي صفة أخلاقيّة، تعبّر عن حالة الإنسان الساعي الى الكمال من خلال حفظ وصايا الله. هو الإنسان الّذي يحيا بهدي الكتاب المقدّس، ويطبّق عمليًّا قول المزمور: "كلمتك مصباح لخطاي ونور لسبيلي".

 

تقيّ

 

التقوي هي فضيلة تكمّل البرارة وتعطيها معناها. هي حياة الصلاة التي تأتي لإكمال حياة البرارة. دون الحياة الروّحيّة تصبح المحافظة على وصايا الله مجرّد وسواس أو تعلّق بحرف الشريعة، ولكن حياة الصلاة تجعل من البرارة فضيلة، وتعطي لحفظ الشريعة معناها الأعمق.

 

 ينتظر عزاء إسرائيل

 

هي حالة الإنتظار التي ميّزت العهد القديم، هي حالة الإنتظار التي تميّزنا كمعمّدين اليوم، هو انتظار تحقق وعود الأنبياء في العهد القديم، وهو انتظار مجيء الرّبّ في حياة الكنيسة: انتظارنا اليوم، كما انتظار شعب الله في العهد القديم، هي حالة روحيّة لا زمنيّة، هي حالة الكائن المستعدّ دوماً لمجيء الله إليه، والدخول في علاقة معه. الخاطئ وحده يخاف حضور الله، أمّا الحبيب فينتظر بفارغ الصبر وصول الحبيب. سمعان كان يحيا حالة الصداقة مع الله، كان ينتظر، لأنّه كان يؤمن والإيمان لا ينفصل عن الرّجاء.

 

فالرُوحُ القُدُسُ كانَ قَدْ أَوْحَى إِلَيْه أَنَّهُ لَنْ يَرَى المَوْتَ قَبْلَ أَنْ يَرَى مَسِيحَ الرَبّ:

سمعان اختبر بالجسد ما نحن مدعّوون أن نختبره في حياتنا الرّوحيّة. وعد الله لسمعان هو وعد الله لكلّ واحد منّا أنّنا لا نموت قبل أن نعاين خلاص الرّب. هو وعد الله لنا بأنّنا سوف نخلص، بأنَّ خلاصه سوف يطالنا قبل أن يبلغنا الموت.

 

هي فضيلة الرّجاء هي الثقة التي يضعها الرّوح في قلبنا بأنّنا مُخَلّصون، رغم ضُعفنا، رغم فشلنا، رغم خطيئتنا، الرّب يفتح لنا دومًا مجال الخلاص، يعطينا بداية جديدة، يحبّنا، ينتظرنا، ويريد منّا أن نكون أوفياء.

 

 

سمعان المنقاد للّروح القدس

 

يشدّد لوقا على تكرار ذكر "الرّوح القدس"، ثلاث مرّات في جملة واحدة: "والرُوحُ القُدُسُ كانَ عَلَيْه. وكانَ الرُوحُ القُدُسُ قَدْ أَوْحَى إِلَيْه أَنَّهُ لَنْ يَرَى المَوْتَ قَبْلَ أَنْ يَرَى مَسِيحَ الرَبّ. فجَاءَ بِدَافِعٍ مِنَ الرُوحِ إلى الهَيكَل". هي صفة أخرى يضيفها لوقا إلى شخص سمعان الشيخ: وجوده بكلّيته انقياد لعمل الرّوح.

 

سمعان صار صورة لتلميذ المسيح: هو رجل الإيمان، يقبل إرادة الرّب ويحافظ على شريعته. هو رجل الصّلاة، لا يحيا حرفيّة الوصايا، بل يحياها بمعناها الأعمق، يحوّل حياته إلى نشيد متواصل. هو الإنسان الّذي يحيا على هدي الرّوح، هو الإنسان المخلّص، لا يدركه الموت قبل أن يلمسه خلاص مسيح الرّب.

 

قصة سمعان العجوز تعلمّنا الرّجاء، وتعلّمنا أنَّ ما نرجوه سوف يتحقّق يومًا. تعلّمنا الثقة بوفاء الله لشعبه وأمانته في تحقيق وعده لأبنائه. تعلّمنا أن تحقّق مشيئة الرّب لا يتمُّ دومًا بالطريقة التي نريدها: سمعان، كما الشعب كلّه، كان ينتظر المسيح القويّ، المحارب، المحرّر، الّذي يخلّص شعبه من خطيئته. ولكنّه وجد بين يديه مسيحًا طفلاً، ضعيفًا، دون سيف، دون جيش، مسالم غير عنيف.

 

لم يطرح سمعان الأسئلة، صَمِتَ وآمنَ، علم أنَّ الله أعلم منه، وهو يحضّر له وللشعب النّصيب الأفضل. هكذا صار سمعان معلّمًا في الإيمان، يعلّمنا خضوع الإيمان لإرادة الرّب.
 

وعِنْدَما دَخَلَ بِالصَبِيِّ يَسُوعَ أَبَوَاه، لِيَقُومَا بِمَا تَفْرِضُهُ التَورَاةُ في شَأْنِهِ: يوسف ومريم كانا يعلمان قصّة الطفل الإلهيّة، فالملاك قال لكليهما أنّه ابن الله وكلمته. علما أنَّ يسوع هو عطيّة الله، وأنَّ هذا الإبن هو نعمة أوكلها الله إليهما. فحملاه وذهبا يتمّمان شريعة الرّب.

 

مريم ويوسف مثال للوالدين

 

فابناؤنا هم أيضًا عطيَّة الله العظمى لنا، ولدنا هو ابن الله أيضًا يحلّ في حياتنا. إبننا وابنتنا هما نعمة الله، ووزنة يكِلها الله لنا. هي مسؤوليّة عظيمة نحملها تجاه الله، لأنّنا نربّي ابنه وابنته. يوسف ومريم تمّما الشريعة، وكانا المثال أمام يسوع في إتمام الواجب الرّوحيّ تجاه الرّب، وفي الإلتزام بالمواظبة على زيارة بيت الآب. هل نهتم نحن أيضًا بهذه الناحيّة المهمّة في حياة أولادنا؟ هل نأخذ  بالإعتبار نموّ إبننا الرّوحي، إلى جانب اهتمامنا بنموّه الجسدّي والفكريّ؟

 

حَمَلَهُ سِمْعَانُ على ذِرَاعَيْهِ، وبَارَكَ الله وقَال:

عبارات تعيد إلى بالنا مقدّمة كلمات بركة الإفخارستيّا. ما قام به سمعان هو عمل كهنوتيّ: حمل جسد المسيح، رفعه، وبارك الآب. هي حركات يؤدّيها الكاهن كلّ يوم على المذبح. هي صورة كهنوتنا يأخذ أسمى معناه بحمل جسد ابن الله نفسه، يرتفع على أيدينا، وعبره نرتفع نحن إلى بيت الآب. بالمسيح اشتركت الإنسانيّة كلّها في الحالة الكهنوتيّة، صارت قادرة على لمس كلمة الله، ورفعها إلى الآب.

 

 

الآنَ تُطْلِقُ عَبْدَكَ بِسَلام

 

هو ليس فعل أمر، هو الزمن الحاضر يستعمله سمعان. لا يطلب من الله أن يضع حدًّا لحياته، بل يعلن أنّ الآن، في هذه اللّحظة المسيحانيّة، قد تمّت وعود الله كلّها. باستعماله زمن الحاضر، يعلن سمعان أنّ الله صادق في وعوده، ويعلن أن قد بلغ العبد إلى لحظة قبول السيّد، لقد حرّر الله الإنسان من انتظارات العهد القديم، وصارت وعود الله للآباء وللأنبياء واقعًا حاضرًا. لقد صار سمعان ممثلاً عن آباء العهد القديم وأنبياءه، لقد صار ناطقًا باسم العهد القديم، يبارك الله الّذي أتمّ الوعد.

 

لأَنَّ عَينَيَّ قَدْ أَبْصَرَتَا خَلاصَكَ، أَلَّذي أَعْدَدْتَهُ أَمَامَ الشُعُوبِ كُلِّهَا، نُوْرًا لِلأُمَم، ومَجْدًا لِشَعْبِكَ إِسْرَائيل:

 

لقد أبصرت عينا سمعان الطفل يسوع، هو الّذي كان ينتظر خلاص شعبه من الإحتلال الأجنبيّ ومن سيطرة الأعداء. علم أنَّ الخلاص ما هو في العنف، ولا في السيطرة، ولا في الإنقلابات والثورات الدامية على الأعداء، علم أنَّ كلَّ وعود الله وانتظارات الآباء اختصرها الطفل بين يدي أمّه، أتى يعلن العهد الجديد. هو الخلاص المتجسّد، الخلاص الّذي جعل نفسه إنسانًا لنلمسه ونراه ونسمعه ونتناوله.

 

هو الخلاص، نور الأمم: مع المسيح تخطّى الخلاص حدود إسرائيل، لم يعد محصورًا بشعب الميعاد، بالمسيح المتجسّد شمل الخلاص البشريّة بأسرها. شموليّة الخلاص هذه لا تُنقص مجد إسرائيل بل تضفي عليه عظمة، فبفضل العهد الّذي قطعه الله مع شعب إسرائيل، طال الخلاص البشريَّة بأسرها.

 

هَا إنَّ هَذا الطِفْلَ قَدْ جُعِلَ لِسُقُوطِ ونُهُوضِ كَثيِرينَ في إِسْرَائيل، وآيَةُ لِلخِصَام:

 

هو تحقيق لنبوءة أشعيا: "وسوف أكون حجر عثرة لبيتي إسرائيل كليهما، وصخرة سقوط وفخًّا وشركًا لسكان أورشليم" (أش ٨، ١٤). المسيح، حجر عثرة لمن ينتظر إلهًا عنيفًا، متسلّطًا. هو حجر عثرة لمن يرفض منطق المسيح، منطق المغفرة والمحبّة.

 

سوف يعثر من يبحث في المسيح عن ضمانات وتأكيدات: المسيح لا يقدّم ضمانات محسوسة، هو يدعونا إلى مغامرة ثقة معه، يدعونا إلى الإيمان، إلى الرجاء، إلى الثقة بحضوره معنا دونما بحث عن ضمانات ملموسة. هو يدعونا لأن نتبعه فحسب، أي إلى أن ندخل معه في علاقة صداقة وحبّ.

 

لهذا أصبح علامة سقوط لكثيرين، أي للمتكبّرين بأفكار نفوسهم، أمّا الفقراء فيرفعهم، المتّكلون على الرّب يجدون قيامتهم، المؤمنون يجدون الجواب. هو نشيد مريم يستعيده سمعان هنا: فلقد سبق لأمّ يسوع أن قالت: "أنزل الجبابرة عن عروشهم ورفع المتضعين" (لو ١، ٥٢).

 

وأَنْتِ أَيْضًا، سَيَجُوزُ في نَفْسِكِ سَيْف، فتَنْجَلِي خَفَايَا قُلُوبٍ كثيرَة:

 

لوقا لم يتكلّم عن مريم الواقفة عند أقدام الصليب، فوحده يوحنّا ذكر الأمّ المتألّمة عند صليب ابنها. ولكن ها هو لوقا يستبق بشارة يسوع بالإعلان عن ألم أم يسوع: هو ألم معرفة أنّ ابنها، حمل الله الطاهر، سيضحي ذبيحة تفدي الخطأة. هو سيف الألم يجتاز قلب الطاهرة، لتنجلي على ضوء هذا السيف وهذا الألم نوايا لكثيرين.

 

يمكننا أن نقيس إيماننا على ضوء اختبار مريم، وعلى ضوء ألمها. هي علمت أنّها سوف تتألّم، وأكملت السير في الدرب الّذي رسمه الرّب لها. لم تتهرّب من الدعوة التي دعيت اليها، رغم علمها بالألم الّذي سوف ينتظرها.

 

هذا اليوم نصلّي من أجل المكرّسين من رهبان وراهبات، وكلّ شخصيّات هذا الإنجيل تظهر معنى التكرّس.

 

 يسوع الّذي كرّسه الآب وأرسله إلى عالمنا، فأطاع حتّى موت الصليب. هو المثال الأوّل لكلّ مكرّس يسمع صوت الله ويستجيب لدعوته من أجل خلاص العالم.

 

 مريم التي استجابت لدعوة الله أيضًا، وتمّمت شريعة التطهير وهي النقيّة. قبلت إرادة الله في حياتها رغم علمها بسيف الألم الّذي سوف يجوز قلبها، فصارت خادمة سرّ التجسّد والفداء.

 

 يوسف الصامت دومًا، المتممّ إرادة الله والساعي للتفتيش عن إرادة الله في حياته، يحمل مسؤوليّة السهر على يسوع، وعلى مشروع خلاص جنسنا البشريّ.

 

 سمعان الّذي قبل أن يطيع الناموس، لا حبًّا بالحرف بل للوصول الى معطي الناموس، ودخل في علاقة صلاة وتأمّل من خلال عيش فضيلة التقوّى. هو المُنقاد دومًا للروح القدس، والعائش رجاء تحقّق مواعيد الرّب لشعبه. هو أيضًا صورة المكرّس، الّذي يحيا هنا على رجاء ملكوت الله، لا يفقد الثقة مهما طال تحقّق وعود الله له، يحمل المسيح بين يديه، يضمّه إلى صدره، يرفعه ويبارك الآب. هو مثال لكلّ مكرّس جعل حياته زمن انتظار للسيّد ولملكوته.

 

الأب بيار نجم ر.م.م.