الأحد العاشر من زمن العنصرة «الإنجيل

 

 

الأحد العاشر من زمن العنصرة

 

الرسول يكرز بالملكوت

 

إنجيل (متى12 /22-32)

 

حِينَئِذٍ قَدَّمُوا إِلى يَسُوعَ مَمْسُوسًا أَعْمَى وأَخْرَس، فَشَفَاه، حَتَّى تَكَلَّمَ وأَبْصَر.

 

فَدَهِشَ الجُمُوعُ كُلُّهُم وقَالُوا: «لَعَلَّ هذَا هُوَ ٱبْنُ دَاوُد؟».

 

وسَمِعَ الفَرِّيسِيُّونَ فَقَالُوا: «إِنَّ هذَا الرَّجُلَ لا يُخْرِجُ الشَّيَاطِيْنَ إِلاَّ بِبَعْلَ زَبُول، رئِيسِ الشَّيَاطِين».

 

وعَلِمَ يَسُوعُ أَفْكَارَهُم فَقَالَ لَهُم: «كُلُّ مَمْلَكَةٍ تَنْقَسِمُ على نَفْسِها تَخْرَب، وكُلُّ مَدِينَةٍ أَو بَيْتٍ يَنْقَسِمُ على نَفْسِهِ لا يَثْبُت.

 

فَإِنْ كانَ الشَّيْطَانُ يُخْرِجُ الشَّيْطَان، يَكُونُ قَدِ ٱنْقَسَمَ عَلى نَفْسِهِ، فَكَيْفَ تَثْبُتُ مَمْلَكَتُهُ؟

 

وإِنْ كُنْتُ أَنَا بِبَعْلَ زَبُولَ أُخْرِجُ الشَّيَاطين، فَأَبْنَاؤُكُم بِمَنْ يُخْرِجُونَهُم؟ لِذلِكَ فَهُم أَنْفُسُهُم سَيَحْكُمُونَ عَلَيْكُم.

 

أَمَّا إِنْ كُنْتُ أَنَا بِرُوحِ اللهِ أُخْرِجُ الشَّيَاطين، فَقَدْ وَافَاكُم مَلَكُوتُ الله.

 

أَمْ كَيْفَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَ القَوِيِّ ويَنْهَبَ أَمْتِعَتَهُ، إِنْ لَمْ يَرْبُطِ القَوِيَّ أَوَّلاً، وحِينَئِذٍ يَنْهَبُ بَيْتَهُ؟

 

مَنْ لَيْسَ مَعِي فَهُوَ عَلَيَّ. ومَنْ لا يَجْمَعُ مَعِي فَهُوَ يُبَدِّد.

 

لِذلِكَ أَقُولُ لَكُم: كُلُّ خَطِيئَةٍ سَتُغْفَرُ لِلنَّاس، وكُلُّ تَجْدِيف، أَمَّا التَّجْدِيفُ عَلى الرُّوحِ فَلَنْ يُغْفَر.

 

مَنْ قَالَ كَلِمَةً عَلى ٱبْنِ الإِنْسَانِ سَيُغْفَرُ لَهُ. أَمَّا مَنْ قَالَ عَلى الرُّوحِ القُدُسِ فَلَنْ يُغْفَرَ لَهُ، لا في هذَا الدَّهْر، ولا في الآتِي.

 

 

 

تأمل(لمزيد من الإستنارة الروحيّة قراءته بتمهّل طوال الأسبوع).

 

يأخذ ملكوت الله حيّزاً كبيراً في لاهوت الإنجيليِّين الأربعة وهذا ما عبّر عنه القدِّيس متى الإنجيليّ على لسان يوحنّا المعمدان عندما شرع يبشّر بمعموديَّة التوبة في بريَّة اليهوديَّة قائلاً: "توبوا فقد اقترب ملكوت السماوات". لقد بشّر يسوع بهذا الملكوت في مطلع رسالته العلنيّة بعد عودته من صومه في البرية: "توبوا فقد اقترب ملكوت السماوات".

 

 

ثمَّ فيما بعد ذهب الرُّسل كما أمرهم يسوع ليكرزوا بهذا الملكوت ابتداءً من أورشليم حتى أقاصي الأرض. لذلك يورد لنا الإنجيليّ متى في هذا النصّ أهميَّة هذا الملكوت الذي جاء يسوع يبشّر به فأضحى حاضرًا في شخصه وقد أعلنه أمام الكتبة والفرِّيسيِّين. ثم يُظهر القدِّيس متى خطيئة التجديف على الرُّوح القدس عندما نسب الفريسيُّون إلى يسوع بأنّه يفعل كلّ ذلك باتّفاق ضمني مع رئيس الأرواح الشرّيرة.

 

 

"حينئذ قدّموا إلى يسوع ممسوسًا أعمى وأخرس فشفاه" إنّنا غالباً ما نرى في حياة يسوع العلنيّة وفي نشاطه الرَّسولي العداوة التي كانت تحصل بين يسوع وبين الفريسيِّين. فكانت هذه العداوة تظهر عندما كان يسوع يبشّر المساكين ويشفي المرضى ويقيم الموتى ويخرج الشياطين بروح الله بحسب قوله للفريسيِّين: "إذا كنت أنا بروح الله أُخرج الشياطين، فقد اقترب منكم ملكوت الله"(متى12/ 28). فالمعجزات التي كان يصنعها يسوع لم تكن إلاّ علامات لمجيء ملكوت الله، ومجيئه يعني هدم قدرة الشيطان وتقويض مملكته.

 

 

يتّصف ملك الشيطان بمعاداة الخليقة وعداوة الإنسان لله نتيجتها عداوته لذاته وللطبيعة، وعندما تعود الشراكة من جديد مع الله ويُقام ملك الله تصبح هذه الأشياء عندئذ من جديد في نظام الحبّ والحريّة ويستعيد العالم عافيته. فالأشفية التي كان يقوم بها يسوع تعني إحلال ملكوت الله في عالمنا فتغدو هذه الأشفية علامات رجاء لعالمنا. لقد بشّر يسوع باكتمال الزمان وبنهاية الإنتظار ووصف ذاته منذ بداية بشارته العلنيّة نذيرًا لملكوت الله المنتظر وكان يوحنّا المعمدان قد تكلّم سابقاً على اقتراب حلول ملكوت الله. وكما يقول بولس الرّسول: "لمّا تمّ الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة..." (غل4/ 4).

 

 

 

لقد قال يسوع للفريسيِّين: "لقد دام عهد الشريعة والأنبياء حتى يوحنا، ومن ذلك الحين يُبشّر بملكوت الله، وكلّ امرئ ملزم بدخوله" (لو16/ 16).

 

 

وكان يجيبهم أيضاً عن موعد حلول هذا الملكوت: لا يأتي ملكوت الله على وجه يُراقب... فها إنّ ملكوت الله بينكم" (لو17/ 20-21). كان يسوع يُتَّهم بأنَّ لا قدرة له شخصيَّة على الشياطين إلاّ بواسطة رئيسهم ومن هنا كان جوابه: "كلّ مملكة تنقسم على نفسها تخرب، وكلُّ مدينة أو بيت ينقسم على نفسه لا يثبت". يقلب هنا يسوع إقامة الدليل على الفريسيِّين فيدلّ بطرده الشياطين، على أنَّ ملكوت الله يفتتح زمناً جديداً.

 

 

فلا يقوم هذا الملكوت على مؤسّسة جديدة، بل على حدث حقّقه حضور يسوع الشخصيّ الذي يضع حدًا لسيطرة الشرِّير، لأنَّ اليهود المعاصرين ليسوع كانوا يعتقدون أنَّ إبليس يسيطر على هذا العالم. فردّ يسوع التهمة أوَّلاً بمنطق أهل الأرض: لا يُمكن أن يطرد إبليس ذاته. ثانياً بمنطق المتهمين أنفسهم. ثالثاً بمنطق روح الله الناطق في الإنبياء والكتب المقدَّسة. فيسوع وحده لديه القدرة بروح الله أن يدخل بيت القوي ويربطه وينهب بيته وينقض مملكته. أن كلّ الإتّهامات الموجّهة من قِبل الفريسيِّين ليسوع لم تكن إلاّ تجديفـًا على الرُّوح القدس، لأنَّهم رأوا عمل الرُّوح في أقوال يسوع وأعماله، فنسبوها إلى روح الشِّرير وهذه ذروة الكفر والشرّ والخطيئة الوحيدة التي لا تُغفر.

 

 

أمَّا علامات هذا الملكوت فيشير يسوع إليها: "أنَّ العميان يبصرون والصمّ يسمعون والعرج يمشون والمساكين يُبشّرون" (متى11/ 2-6). ومن هذه العلامات أيضاً طرد الشياطين، فيسوع يدّمر مُلك الشيطان ويبني ملكوت الله. غير أنَّ الفريسيِّين سيتخذون موقفاً معادياً يدلّ على أنَّهم لم يكتشفوا بعد أن هذا الملكوت قريب. لقد وقعوا في خطيئة التجديف عندما  تذرّعوا بأنّ الله ليس هو الذي يعمل في يسوع، بل بعل زبول، أمير الشياطين. وهكذا أغلقوا عيونهم عن الحقّ، وارتكبوا خطيئة لا تُغتفر عندما رفضوا قبول النّور الرُّوح القدس.

 

 

لهذا سيترك لهم بيتهم خراباً كما أعلن يسوع فيما بعد. نستنتج هنا بأن هناك مفارقة بين أعمى جاء ليرى يسوع وبين الفريسيِّين الذين لا يريدون أن يروا.

 

 

فأعداء يسوع الحقيقيون هم الكتبة والفريسيُّون الذين هم أكيدون من أنفسهم بأنَّهم يروا، لذا فهم لا يحتاجون أبدًا إلى أيّ نور آخر. لذلك ردّد لهم يسوع أمام تعنّتهم هذا: "لو كنتم عمياناً لما كان عليكم خطيئة. ولكنكم تقولون الآن: إنّنا نبصر فخطيئتكم ثابتة" (يو9/ 40).

 

 

إنَّ بيت الرَّجل القوِّي هو مملكة الشيطان وممتلكاته هي الأشخاص الذين يمتلكهم ويسوع يحررّهم بخدمته الخلاصيَّة. ففي نظر متى الفريسيُّون هم مثل شجرة رديئة والثمر الردئ الذي يثمرونه هو تجديفهم على الرُّوح القدس ورفض أنواره. لم يعرف الفرِّيسيُّون أن يميِّزوا بين ملكوت الله ومملكة الشيطان. يتجلّى ملكوت الله من خلال كلِّ الأشفية وطرد الشياطين وإقامة الموتى. لقد ردّ يسوع على اتّهام الفريسيِّين له فوضعهم أمام خيارين لا مخرج منهما: أو أنَّ يسوع يطرد الشياطين بإبليس، فيكون الشيطان يحارب الشيطان، أو أنَّ يسوع يطرد الشيطان بقدرة الله. عند ذاك لا تُغفر خطيئة الفريسيِّين لأنّهم لا يريدون أن يروا قدرة الله في عمل يسوع الخلاصيّ.

 

 

 

فالعالم كما يقول يوحنّا الرَّسول هو مسرح صراع بين النّور والظلمة بين قوى الشرّ وقوى الخير بين ملكوت الله الذي دشّنه يسوع وبين مملكة الشيطان. لذلك رأت الجموع في قدرة يسوع سلطة جديدة لطرد الشيطان وهذا ما أقلق الفريسيِّين. ولكن إذا اعترف الفريسيُّون بأن يسوع يطرد الشياطين بقدرة الله أضحى الأمر خطيراً بالنسبة لهم. فملكوت الله قد أدركه البشر في شخص يسوع وفي قدرة أعماله. فالملكوت لا يمكن أن يكون بعد اليوم موضوع آمال بعيدة أو حنيناً دينياً، بل أضحى حاضراً في شخص يسوع منذ الآن.

 

 

لقد واجه يسوع الشيطان وتغلّب عليه في هؤلاء الجموع الذين عارضوا رسالته، كما تغلّب عليه في تجاربه الثلاثة في البريَّة التي دشّنت حياته العلنيَّة. لقد أخطأ الفريسييون حين جدّفوا على الرُّوح العامل في رسالة يسوع الخلاصيّة. وهكذا كان الصراع يشتدُّ بين يسوع وبينهم. فأمام ما فعله يسوع وتلاميذه من شفاءات، سيظلّ الفريسيُّون يبحثون عن يسوع كيف يشكونه وفي النهاية سوف يتآمرون عليه ويحكمون عليه بالموت. لهذا جاء شفاء الأعمى والأخرس صورة مسبقة عن وضع الفريسيين العميان.

 

 

 فالفريسيُّون لا يريدون أن يروا، وإن رأوا فهم يرون ما يشاؤون وهذه ذروة التجديف على الرُّوح القدس. فهم لا يرون مملكة الله بل مملكة رئيس الشياطين. لقد رأت الكنيسة فيما بعد موقف الفريسيين الذين ضمروا العداء لها بعد أن ضمروا العداء ليسوع مؤسّسها فقادتهم عداوتهم له إلى الحكم عليه بالموت قائلين: "دمه علينا وعلى أولادنا".

 

 

"معنى التحرّر والشفاء وأهميّة التوبة في حياتنا اليوم" تُظهر لنا دوماً الكتب المقدَّسة بأنَّه بعد أن ظهر يسوع وحطّم كلّ قِوى الشرّ والخطيئة، أضحت كلّ القِوى الشرِّيرة تحت سلطانه الإلهيّ. لذلك نشهد أنّ كلّ تلك الشفاءات التي قام بها يسوع كانت تشير إلى أنَّ ملكوت الله أصبح حاضراً بيننا وفينا وفي وسط تاريخنا. هذا يعني إنَّ الله هو الذي يقود تاريخنا نحو اكتماله وليس الشرِّير. وهذا ما نحن مدعوُّون إلى أن نؤمن به اليوم مهما كانت التحدّيات ومهما تفاقمت قِوى الشرِّير وأضاليل الخطيئة.

 

 

إنَّ الأفكار الذي يبعثها الرُّوح الشرِّير في النفوس الضعيفة تدفعها غالباً إلى اليأس والضياع وإلى أن تتجاهل جوهر إيمانها المتجّذر في الله وفي الكتب المقدَّسة وممارسة الأسرار. هناك اليوم الكثير من المسيحيِّين غالباً ما يكونوا ضحية جهلهم بابتعادهم عن حقيقة الله وتعاليم الكنيسة فيسيرون وراء ضلال العرّافين والسَّحرة والمشعوذين وفي آخر الأمر يلتجئون إلى الكهنة طالبين منهم صلاة التحرير أي التقسيم باعتقادهم بأنّه تسكنهم الأرواح الشرِّيرة من جرّاء حالة الضياع والتشرذم والآلام النفسيَّة التي يُعانون منها.

 

 

إنَّ جميع هؤلاء هم ضحيّة كلّ تلك الأفكار التي تروادهم وهم يتجاهلون حقيقة الإيمان والكتب المقدَّسة وعطيَّة الأسرار التي هي منبع لكلِّ الشِّفاءات النفسيَّة والروحيَّة وسدًّا منيعًا تجاه كلِّ ما يصدر من قِبل الشرِّير. إنَّ هذه الظاهرة التي  يعيشها الكثير من المؤمنين في عالمنا اليوم، هي غالباً ما تكون هلوسة وأمراضًا نفسيَّة ورواسب انفعالات نفسيَّة دفينة. لذلك يقول في هذا الصدَّد الأب دون أمورت في كتابه: "شهادة كاهن يقسم على الشياطين". إنَّ بين كلِّ عشرة آلاف حالة مرضيّة هناك عشرة حالات فقط يمكن أن تكون خاضعة  للتأثير الشيطاني".

 

 

 ولقد ردّد يسوع نفسه قائلاً أمام تلاميذه: "وهذه الآيات تتبع المؤمنين باسمي يُخرجون الشياطين ويتكلّمون بلغات جديدة ويمسكون الحيّات وإن شربوا سمًّا مميتًا فلا يؤذيهم، ويضعون أيديهم على المرضى فيتعافون" (مر16/ 17-18). فالبرغم من تبيان كلِّ هذه الحقائق الإيمانيَّة التي تقودنا إلى التحرّر من الأرواح الشرِّيرة والشفاء التام وتساعدنا على الإنضمام الشخصيّ للإله الحيّ الذي يقوّض ملك الشرِّير.

 

 

بات الكثير للأسف في عالمنا اليوم لا يزالون يعتقدون ويُقرون بأنَّ هذا العالم الذي نعيش فيه أضحى تحت قبضة قوى الشرّ وتأثير سموم الخطيئة كما تزعم بعض البدع وخاصَّة بدعة شهود يهوه الذين يقتحمون البيوت ويبشِّرون بأن انتشار كلِّ الحروب والأوبئة والفساد تشير إلى كلِّ هذه الحقائق وهذا ما يتعارض مع جوهر الإيمان الحقيقيّ والكتب المقدَّسة وتعاليم الكنيسة. لذلك لا بدّ لنا اليوم من العودة إلى جذور إيماننا المسيحيّ الذي ينبع من الله والكتب المقدَّسة وتعاليم الكنيسة لكي نستطيع الخروج من كلِّ هذه الأفكار البالية والعقيمة ومن كلِّ تلك الأوهام التي ترسّخت في عقولنا ونفوسنا.

 

 

 إنَّ هذا الشفاء التام الذي كان يحقّقه يسوع لجميع المرضى والممسوسين  يستطيع أن يحقّقه اليوم في حياتنا نحن أيضًا ويستطيع أن يشفي نفوسنا عندما ننفتح على عمل الرُّوح القدس الذي يقودنا في جميع حاجاتنا ويعمل فينا وفي تاريخنا. وهذا لا يتحقّق إلّا من خلال المواظبة الدائمة على الصَّلاة ومعرفتنا للكتب المقدَّسة وممارسة الأسرار وخاصَّة سرّيّ التوبة والإفخارستيا اللّذين نستطيع أن نصل من خلالهما إلى تطهير إيماننا من كلِّ الشوائب وإلى معرفة حقيقة الله سرِّ شفائنا الوحيد، الذي في ابتعادنا عنه نصبح عرضة لكلِّ هجمات الشرِّير الذي يضعنا في صراع مؤلم مع ذواتنا.

 

 

لقد ردَّد بولس الرَّسول: "قد جاءت الشَّريعة لتكثر الزلّة، ولكن حيث كثرت الخطيئة فاضت النعمة" (روم5/ 20). ويردِّد القدِّيس يوحنا أيضًا في هذا الصدِّد قائلاً: "نعلم أنَّ كلَّ مولود من الله لا يخطأ، بل المولود من الله يصون نفسه ولا يمسُه الشرّير" (1يو5/ 18).

 

 

لقد نَعتَ يسوع الشيطان: "بالكذاب وأبي الكذب" فكما حارب الشرِّير يسوع في البريَّة وجرَّبه فهو يحارب الآن كلّ مؤمن به ويجربه بشتّى الأساليب والخدع. يتسلّل الشرِّير دومًا يتسلّل إلى حياتنا من خلال مساحات ضعفنا ودائمًا لديه شيئاً يعرضه علينا كلّ يوم ويجرّبنا به. فيجرّب هذا بحبِّ المال والسلطة ويحارب الآخر بواسطة اللّذة الجسديَّة والتكبر.

 

 

فعندما ينهزم هذا الشرِّير وتبؤ جميع أساليبه بالفشل، يتركنا إلى حين ثمّ يعود ثانية بشيءٍ آخر يعرضه علينا لكي نقع في أشراكه ونكون ضحيّة ألاعيبه، فكان أحد القدِّيسين يردّد في هذا الصدّد: "من يستطيع أن يكتشف خدعة الشرِّير ويتصدّى لها هو أعظم بكثيرممّن يقيم الموتى".

 

 

إنَّ الشِّفاء الرُّوحيّ والنفسيّ الذي يصبو إليه كلُّ إنسان مريض نفسيًا وروحيًا،  لا يتحقَّق إلاّ من خلال الصّلاة وتصفّحنا للكتب المقدَّسة وممارستنا لسرّي التوبة والإفخارستيا اللذين كلّما تقدّمنا منهما بتوبة صادقة يصبح شفائنا شاملاً. فعندما نتقدّم من حقيقة يسوع كما جاءه ذاك الذي كان ممسوسًا وأعمى فأبصر وأخرس فتكلّم. عندئذ نستطيع أن نتحرّر نحن أيضًا ويضحي بوسعنا بأن نبصر ونحكم على كلِّ الحقائق المزّيفة والحقيقيَّة ونميّز بين ما هو شرّ وبين ما هو خير.

 

 

لذلك نحن في معركة دائمة كما يقول يوحنّا الرَّسول أي أنّ هناك عالم أبناء الظلمة الذين رفضوا أن يُقبلوا إلى النّور وهم أتباع الفريسيِّين وهناك أبناء النّور الذي قبلوا كلمة الله. لقد كان القدِّيس أغسطينوس يردّد في هذا المجال: "إنَّ مدينة الذات التي تصل إلى احتقار الله ومدينة الله التي تصل إلى احتقار الذات". وكما ينبّه بولس الرَّسول: "ليست معركتنا مع اللّحم والدَّم بل مع رئاسات وسلاطين هذا العالم" (أفسس6/ 12).

 

 

ففي خضمّ تلك المعارك بين الخير والشرّ بين الأنانيَّة والتفاني بين المسيح والشيطان والخطيئة، وعندما نصل إلى لحظة نفقد فيها السيطرة الكلّية على ذواتنا يتفتّت كياننا ونضحي في غربة عن ذاتنا وعن الله وعن الآخرين. نحن مدعوُّون إذاً إلى أن نتذكّر دومًا الكلام الذي ردّده يسوع لتلاميذه: "ثقوا إنّني قد غلبت العالم" (يو16/ 33). لقد أتى الملكوت وأصبح حاضرًا بمجيء يسوع وتبشيره بأن الوقت قد حان: "فقد وفاكم ملكوت الله". ولكن هنالك أناس لم يقبلوا خلاصه كما فعل الفريسيُّون. ثم يردّد أيضًا القدِّيس أغسطينوس في هذا الصدَّد قائلاً: "إنَّ الله الذي خلقنا من غير إرادتنا لا يقدر أن يخلّصنا من غير إرادتنا".

 

 

فليس في إمكان الآب ولا الإبن ولا الرُّوح القدس ولا أحد أن يتغلّب على حريَّة انغلقت على ذاتها. فمن هنا ندرك بأنَّ خطيئة التجديف على الرُّوح القدس ليست إلاّ ذاك الإنسان الذي يستطيع أن يرى كلّ الحقائق ويملك كلّ المعرفة والحريَّة والإرادة، لكنَّه يأبى بأن يُقبل إلى النّور. فمع ظهور الملكوت السماويّ في شخص الإبن الوحيد يسوع المسيح، لم يعد هناك مكان للتردّد والرياء كما كان يفعل هؤلاء الفريسيين. فالتجديف على الرُّوح القدس هو ما قاله لهم يسوع: "فقال لهم يسوع لو كنتم عميانًا لما كان عليكم خطيئة ولكنكم تقولون الآن: إنّنا نُبصر فخطيئتكم ثابتة" (يو9/ 41).

 

 

لذلك نحن مدعوُّون من خلال كلِّ ما تقدّم إلى أن نسلك طريق التوبة الجذريَّة والشَّاقة التي غالبًا ما توحي لنا بشكل عام بالندم على الخطيئة والشّعور بالذنب وبالألم والرَّهبة أمام الجروح التي نكون قد تسبّبنا بها لله ولقريبنا ولأنفسنا. فالتوبة الحقيقيَّة تتخطّى كلَّ هذه الحقائق والمفاهيم، إنَّها تبدُّل جذري في حياة المؤمن أي تغيير النفس وليس فقط الندم على الماضي والشّعور بالألم، بل التحوّل الجذري لنظرتنا ولاكتساب طريقة جديدة لرؤية الله والآخر ولنفوسنا.

 

 

 فالتوبة ليست الندم فقط على خطايانا الشخصيَّة بل هي تحوّل يومي حيث يصبح الله محور كلّ حياتنا ومرجعيَّتها الوحيدة. لذا لا نستطيع أن نُقدم على هذا التغيير الجذري ونتصدى لكلِّ هجمات الشرِّير إلاّ بقوة الرُّوح القدس الذي يهبنا الغلبة والنعمة لكي نثبت ونعيش هذا الإرتداد المستمرّ الذي هو ليس في ضمن إمكانياتنا البشريَّة. لذلك نحن مدعوُّون إلى أن نتأمَّل بما ردّده القدِّيس أغسطينوس: "ألق بنفسك في أحضان الله ولا تخف، فلن يبتعد عنك ولن يدعك تقع. ألقِ بنفسك فيه مطمئناً فيقبلك ويشفيك".

 

 

 

 

 

أسئلة للتأمل والتفكير:

 

1- هل ندرك أنَّه عندما نتصفّح الكتب المقدَّسة ونمارس سرّي التوبة والإفخارستيا نستطيع حينئذ أن نُشفى من كلِّ عاهاتنا الروحيَّة والنفسيَّة ولم يعد للشرّ من سلطة علينا، بل يُضحي الشرّ بالنسبة إلينا موضوعًا هامشيًّا؟ وببعدنا عن كلِّ هذه الحقائق الروحيّة نُضحي عرضة لرياح الشرِّير الذي يرود حولنا طالبًا من يلتهم منّا؟

 

2- ماذا يعني لنا اليوم هذا القول: "مَن ليس معي فهو عليّ؟" هل نُدرك بأنَّ الحياة المسيحيَّة هي حياة إلتزام دائم وممارسة يوميّة أمام كلِّ المصاعب والتحديات الكبيرة؟ هل نستطيع أن نؤمن بحقيقة الله عندما تعصف بنا رياح الشرّ ولم يعد لنا أيّ مخرج خلاصيّ؟ هل نظل نترجّى ونؤمن بأن قدرة الله ستتجلّى لنا في ذروة ضعفنا وخطيئتنا؟

 

3- كيف نفهم اليوم خطيئة التجديف على الرُّوح القدس؟ هل نعي بأنَّ خطيئة التجديف هي أن الإنسان الذي يرى الحقائق الإلهيَّة لكنَّه يرفض بأن يقرّ بها كما فعل أولئك الفريسيُّون؟ هل نؤمن بأنَّ من يختبر حقيقة الله يستطيع أن يخرج من عناده وادِّعائه وكبريائه ويستطيع أن يتحرّر من عمى بصيرته ويُميِّز ما هو خير وما هو شرّ في حياته وسلوكه؟

 

 

صلاة:

نقدّم لك أيَّها الطبيب السماويّ جميع رغابتنا ونطرح أمامك نفوسنا المجرّحة بسهام الضّعف والتردّد لكي تتسرّب إليها قوَّة روحك لتحرّرها وتشفي عيوننا المظلمة العاجزة عن مشاهدة حقيقتك. لا تدعنا نركن إلى الضلال كأنّه الحقّ، بل اجعلنا ننزح إلى عمق نفوسنا حيث يتجلّى فينا شعاع ملكوتك الذي لا نستطيع أن نتلمّسه خارجًا عن ذواتنا. وجّه قلوبنا نحو طريق التوبة الجذريَّة ولا تدع حياتنا تتأرجح بين النّور والظلمة حيث نسير تارةً في طريق الحقّ وتارةً أخرى في طريق الباطل. أنقذ نفوسنا من الشرائع القديمة التي تحارب أعضاءنا وتعصف في كياننا. قُدنا دومًا نحو سرّ شفائك لكي تتحقّق فينا تلك الوحدة التامّة بين أقوالنا وأعمالنا الشخصيَّة. لك المجد إلى الأبد أمين.

 

 

 

الأب  نبيل حبشي ر.م.م.