الأحد الرابع من زمن العنصرة «الإنجيل

 

 

 

 

إنجيل لوقا (10/ 21- 24)

 

يسوع يبتهج بالرّوح
 

 

(بَعدَ عَودَة الاثنَين وَالسَّبعينَ تِلميذًا بِفَرَحٍ) ٱبْتَهَجَ يَسُوعُ بِالرُّوحِ القُدُس، فَقَال: «أَعْتَرِفُ لَكَ، يَا أَبَتِ، رَبَّ

 

السَّمَاءِ وَالأَرْض، لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هذِهِ الأُمُورَ عَنِ الحُكَمَاءِ وَالفُهَمَاء، وَأَظْهَرْتَها لِلأَطْفَال. نَعَم، أَيُّهَا الآب،

 

لأَنَّكَ هكذَا ٱرْتَضَيْت.

 

لَقَدْ سَلَّمَنِي أَبي كُلَّ شَيء، فَمَا مِنْ أَحَدٍ يَعْرِفُ مَنْ هُوَ ٱلٱبْنُ إِلاَّ ٱلآب، وَلا مَنْ هُوَ ٱلآبُ إِلاَّ ٱلٱبْن، وَمَنْ

 

يُريدُ ٱلٱبْنُ أَنْ يُظْهِرَهُ لَهُ».

 

ثُمَّ ٱلتَفَتَ إِلى تَلامِيذِهِ، وقَالَ لَهُم عَلى ٱنْفِرَاد: «طُوبَى لِلْعُيونِ الَّتِي تَنْظُرُ مَا أَنْتُم تَنْظُرُون!

 

فَإِنِّي أَقُولُ لَكُم: إِنَّ أَنْبِياءَ وَمُلُوكًا كَثِيرِينَ أَرادُوا أَنْ يَرَوا مَا أَنْتُم تَنْظُرُون، فَلَمْ يَرَوا، وَأَنْ يَسْمَعُوا مَا

 

تَسْمَعُون، فَلَمْ يَسْمَعُوا».

 

 

 

 

تأمل(لمزيد من الإستنارة الروحيّة قراءته طوال الأسبوع بتمهّل).

 

بعد أن رأينا تجلّي روح الحقّ في إنجيل القدّيس يوحنّا هذا الرُّوح الذي يعلّم التلاميذ ويذكّرهم بكلِّ ما قاله يسوع ويقود الكنيسة عبر مسيرتها الخلاصيّة نحو الملكوت. يروي الإنجيليّ لوقا في هذا النصّ عودة اندهاش وفرح التلاميذ الإثنين والسّبعين الذين أوفدهم يسوع إلى الرِّسالة فيُعلنون له: "حتّى الشّياطين تخضع لنا بإسمك".

 

لذلك يشدّد لوقا على موجة الفرح والصّلاة التي أطلقها يسوع متهلّلاً بالرُّوح القدس معبِّرًا فيها عن صلته البنويّة بالله أبيه مُظهرًا كيف أنّ الله أخفى ذاته عن الحكماء والفهماء وكشف عظمته وقدرته في الودعاء والضعفاء والمتواضعين. 

 

 "في تلك السّاعة تهلّل يسوع بدافع من الرّوح القدس" يُظهر لنا لوقا الإنجيليّ أنّ يسوع فاه بهذه الصّلاة بعد عودة التلاميذ الإثنين والسبعين فرحين بنجاح عملهم الرَّسوليّ وما رافقه من آيات ومعجزات تدلّ على اقتراب ملكوت الله في شخص يسوع المسيح مردّدين: "يا ربّ والشَّياطين أيضًا تخضع لنا باسمك، أمّا هو فأجابهم: "لا تفرحوا بهذا إنّ الشّياطين تخضع لكم، بل افرحوا بأنّ أسماءكم كُتبت في السّماء" (لو10/ 17-20).

 

    لقد شاهد التلاميذ أعمال الله التي ظهرت في يسوع المسيح الذي أشركهم بقوَّة سلطانه: "فقال لهم كُنت أرى الشّيطان يسقط من السَّماء كالبرق. وها قد أوليتكم سلطانًا تدوسون به الحيّات والعقارب وكلّ قوّة العدو ولن يضرّكم شيء" (لو18/10-19). وسمعوا من فمه كلام الحياة عندما أجابه بطرس: "ياربّ إلى من نذهب وكلام الحياة الأبديّة عندك؟ ونحن آمنّا وعرفنا أنك قدّوس الله" (يو68/6-69).

 

  هذا الكلام لم يسمعه أنبياء وملوك كثيرون. لذلك قال لتلاميذه: "طوبى للعيون التي تنظر ما أنتم تنظرون". عندها ردّد يسوع هذه الصّلاة: "سبحانك يا أبتاه يا سيّد السّماء والأرض، لأنّك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأظهرتها للأطفال". إنّ هذه الصّلاة هي إعتراف وشكر لله الآب على أنّه منح التلاميذ السّلطان على قوى الشرّ وكتب أسماءهم في ملكوت السّموات. هؤلاء التلاميذ هم الذين قبلوا بوداعة الأطفال سِرّ يسوع خلافـًا لعلماء الشّريعة أي الكتبة والفريسيّون الذين رفضوا يسوع ولم يؤمنوا به بسبب كبريائهم.

 

  إن تهلّل يسوع هو مناجاة بنويّة تُرفع إلى الله الآب. فيسوع يحمد أباه لأنّه كشف ذلك للبسطاء وأخفاه عن الحكماء. لذلك يقول بولس الرّسول: "وما كان في العالم من غير حَسَب ونَسَبٍ وكان محتقرًا فذاك ما اختاره الله: إختار غير الموجود ليُزيل الموجود، حتّى لا يفتخر بشرٌ أمام الله" (1قو28/1-29). لقد أكّد يسوع مرارًا كثيرة أنّه إبن الله وأن كمال الوحي قد تمّ بشخصه وكلامه وأفعاله: "كلّ شيء دُفع إليّ من أبي ولا أحد يعرف من هو الإبن إلاّ الآب ولا من هو الآب إلاّ الإبن، ومن أراد الإبن أن يظهر له".

 

إنّ الصّلاة التي رفعها يسوع إلى الآب هي فعل إعتراف وشكر لله وتطويب للتلاميذ الشّهود على كلّ ما رأوا وسمعوا. في هذه الصّلاة يسبّح يسوع الآب بكشفه هذا السّلطان لتلاميذه الذي منحهم إيّاه على قوى الشرّ وتدوين أسمائهم في ملكوت السّموات.

 

لقد منح يسوع تلاميذه ما كان ينتظره شعب الله المختار في نهاية الأزمنة وهذا لم يُعطَ لا للكتبة ولا للفريسيِّين الذين كانوا يفسِّرون كلمة الله بروح التكبّر والإستعلاء، بل أظهر ذاته للذين يتحلّون بالوداعة والتواضع والبساطة الإنجيليّة.

 

إنّ النبيّ حزقيال لم يشاهد سوى رؤى وصور عن الله: "في السّنة الثلاثين من الشّهر الرّابع في الخامس من الشّهر وأنا بين المجلوين على نهر كبار انفتحت السّموات فرأيت رؤى إلهيّة" (حز1/1). وتقول الرّسالة إلى العبرانيِّين: "إنّ الله بعدما كلّم الآباء قديمًا بالأنبياء مرّاتٍ كثيرة بوجوه كثيرة، كلّمنا في آخر الأيّام هذه بابن ٍ جعله وارثـًا لكلّ شيء وبه أنشأ العالمين" (عبر1/1-2). إن ما انتظره الشّعب الإسرائيليّ عبر كلّ تاريخه أضحى الآن في متناول تلاميذ يسوع. إنّ هذا الإختبار لحضور الله الفاعل في التاريخ قد تمكّن التلاميذ من مشاهدته وجهاً لوجه.

 

لذلك فرؤية الشّيطان ساقطـًا من السّماء ونيل التلاميذ سلطان يسوع وانهزام قوى الشرّ والظلمة، كلّ هذا أضحى دلالة واضحة على دنو ملكوت الله في شخص يسوع المسيح الذي نناله بانفتاحنا على عمل الرّوح القدس في شتّى مراحل حياتنا.

 

لذلك يشدّد الإنجيليّ لوقا على أنّ عمل الرِّسالة وعمل النعمة في الرُّوح القدس يشكّلان حدثـًا واحدًا هو انتصار كلمة النعمة في قدرة الرّوح القدس. لذلك فكلّ تلميذ حقيقيّ للمسيح يستطيع أن يعيش منذ الآن ذلك الانتصار بالرُّوح القدس ويرى ملكوت الله آتيًا بقوّة ويستطيع أن يختبر ذلك الوعد الذي قطعه الله مع الآباء والأنبياء والملوك فانتظروا تحقيقه من خلال اختبار كلمة الله وعيشها في الحياة اليوميّة.

 

إنّ صلاة يسوع بعد رجوع التلاميذ وانتصارهم على قوى الشرّ تصبح برهانًا على أنَّ يسوع هو الإبن الوحيد والآب قد سلّمه كلّ شيء كما يردّد القدِّيس يوحنّا الرَّسول: "فقال لهم يسوع: الحقّ الحقّ أقول لكم: لا يستطيع الإبن أن يفعل شيئاً من عنده بل لا يفعل إلاّ ما يرى الآب يفعله" (يو5/ 19).

 

إنّ ملكوت الله بدأ يتحقـَّق والإنتصار قد بدأ الآن والمرسلون اختبروا قوَّة يسوع على قوى الشرّ. فما يعيشه التلاميذ من فرح وحماس يشبه حماس المُرسلين الأوَّلين: فيليبّس في السَّامرة، وبطرس بعد عودته من عند كورنيليوس، والقدِّيس بولس بعد رسالته بين الوثنيِّين. هذا ما فعله الرُّوح القدس في حياة التلاميذ وهذا ما يتجلّى في زمن العنصرة الذي هو زمن الكنيسة التي يقودها الرّوح القدس في رسالتها الخلاصيّة نحو الملكوت السَّماويّ. 

 

"طوبى للعيون التي تنظر ما أنتم تنظرون" فكما ظهرت أعمال يسوع على يد التلاميذ الإثنين والسبعين من خلال إتّحاده بالآب، هكذا تظهر أعمال الله وقدرته في حياتنا باتّحادنا بالإبن الوحيد من خلال فهم الكتب المقدّسة وعيش الأسرار. فكما كان يسوع بحاجة إلى تلاميذه لكي ينشر ملكوته، هكذا هو الآن بحاجة إلى كلّ واحد منّا لكي يواصل عمله الخلاصيّ في تاريخ البشريّة الذي لا يتحقـَّق إلّا من خلال الصّلاة التي تبدّلنا وتبدّل العالم من حولنا.

 

فالصّلاة المليئة بالحبّ والإيمان سرعان ما تصل بنا إلى الله. فعندما نصلّي ونشعر بالغفران والسَّلام الداخليّ نفهم أنّ صلاتنا قد وصلت إلى قلب الله. يقول اللاهوتيّ المعاصر كارل راهنر: "الصّلاة هي المكان الوحيد الذي فيه يقيم الإنسان كلّه ويكون على اتّصال شخصيّ بالله". من خلال صلاة يسوع لله الآب.

 

نتأكّد أنّ الصّلاة عنصر أساسيّ من عناصر الحياة الروحيّة. فالصّلاة ليست مجرّد تكرار عبارات، بل هي حديث صميمي وخاص مع الله، إذ نعبّر عمّا هي حياتنا برغابتها ومصاعبها وشدائدها وأفراحها، وما من شيء يخلو من التعبير وما لا يعبّر عنه يندثر وينتهي بالزوال. لأنّ الصّلاة هي التعبير عن الإيمان. هذا ما كان يردّده يسوع عندما كان يشفي الناس من كلّ مرض وعلّة: "ماذا تريد أن أصنع لك؟". يقول بعض الناس: همومي وأعمالي كثيرة جدًا حتى إنّي لا أجد المتسع من الوقت لتكون لي حياة الصّلاة.

 

وهناك من يقول أنّ أعمالنا هي صلاة وإذا كانت أعمالنا صلاة فلماذا نصلّي؟ فالجواب واضح، فلكي تكون أعمالنا صلاة يجب أن نصلّي دومًا لكي تتحوَّل هذه دومًا إلى صلاة. يقول يوحنّا الصليبيّ: "إنّنا سنُدان على المحبّة". فالمحبّة يجب أن نعيشها في القيام بمهمّتنا في جميع المجالات الاجتماعيّة والسياسيّة والإقتصاديّة والتربويّة والعائليّة أي في جميع المجالات الحياتيّة التي نعيشها.

 

إنّ الرّوح القدس نفسه هو الذي يهدّي قلوبنا وعقولنا إلى كلّ صلاة. يقودنا إلى صلاة الإفخارستيّا وهي الصّلاة التامّة والكاملة إذ إنّها امتداد لصلاة يسوع نفسها. وهناك صلاة التأمل في نصوص الكتاب المقدّس الذي هو كلام الله. وصلاة المسبحة الورديّة التي من خلال تكرارها تدخلنا إلى عالم الله وكلّ تدبيره الخلاصيّ. وهناك الصّلاة أمام الأيقونة التي تساعد الإنسان من خلال رؤية المحسوس إلى الدّخول في عالم الله اللّامحسوس.

 

إنّ كلّ أيقونة تعبّر بشكلٍ أو بآخر عن تاريخ الخلاص كما يقول أحد آباء الكنيسة: "أنّ الأيقونة عظة صامتة تساعدنا على جمع أفكارنا وتُدخلنا إلى عالم الله غير المنظور". فمن يستطيع أن يصلّي وحده يستطيع أن يعرف ذاته وأن يتواضع ويلج عمق كيان الله، وتصبح الصّلاة بالنسبة إليه وقت شكر أكثر منه وقتـًا للطلب. ذلك إنّ الله يعلم حاجة كلّ منّا، فلا يكتفي الإنسان الرّوحانيّ بأوقات الصَّلاة المحدّدة كما يقول القول المأثور: "إنْ كنت لا تصلّي إلاّ في الأوقات المحدّدة فإنّك لا تصلّي".

 

يقول الفيلسوف كيرغارد: "إنَّ الصَّلاة لا تغيّر الله بل تغيّر الإنسان الذي يصلّي". هناك قول آخر مأثور يقول: "حيث يوجد الحبّ يحلو التعب ويتبدّد العناء"، هذا ما ينطبق أيضًا على الصّلاة. لذلك نحن مدعوّون لأن نطهِّر ما في صلاتنا من عاطفة لأنّ العاطفة لا تخلو من حبِّ الذات. فإن أردنا أن تكون صلاتنا مرضيّة لله وجب علينا القبول بالحرمان من كلِّ عاطفة. إنّ هذا لأمر مؤلم جدًا لا يَخفى حتى على المتصوِّفين الذين اختبروه مِرارًا. فلا يكون الله إلهًا لنا إلاّ إذا حرمنا الشّعور به، لأنّنا كلّما شعرنا بالله، لا يكون ما نَعدُّه الله سوى شعور عن الله. فالصّلاة هي مكان أختبر فيه أمانتي مع الله والأمين مع الله هو من استطاع أن يحتمل بطأه الذي يمهل ولا يهمل.

 

  إنّ الإيمان الحقيقيّ هو غير العاطفة الدينيّة فعندما نصلّي بدون أن يكون لدينا الرّغبة في الصَّلاة تلك هي الصّلاة الحقيقيّة، هذا ما يردّده أحد آباء الكنيسة: "إذا كنت تنتظر لتتوّلد لديك الرَّغبة لكي تصلّي فإنك لن تصلّي أبدًا". فإذا كانت الصّلاة عمل الله فينا، فدورنا أن نتواضع ونعيش بثقة وببساطة الأطفال ونترك الله يعمل فينا ويبدّلنا هذا ما يشكّل جوهر الحياة المسيحيّة. هذا ما عاشه القدِّيسون وهذا ما نحن مدعوُّون لأن نعشيه في عالمنا اليوم. لنستحقَّ ما قال يسوع لتلاميذه: "طوبى للعيون التي تنظر ما أنتم تنظرون".

 

 

أسئلة للتأمل والتفكير:

 

1-    ماذا يعني لنا هذا القول اليوم؟ "فإني أقول لكم إنّ كثيرًا من الأنبياء والملوك تمنّوا أن يروا ما أنتم تبصرون فلم يروا، وأن يسمعوا ما أنتم تسمعون فلم يسمعوا؟" هل ندرك أنّنا نحصل على هذه الطوبى باتّحادنا بالله من خلال تناول جسد ودمّ يسوع في سِرّ الإفخارستيّا وجميع الأسرار؟

 

2-    هل نعرف أنّ عيش الفرح هو من المسلّمات الأساسيّة في الحياة المسيحيّة؟ وهو دلالة ظاهرة على أنّ الرُّوح القدس يسكن فينا ويقود خُطى حياتنا؟ وهل ندرك أنّ المتواضعين وحدهم يفهمون لغة الله؟

 

3-    هل نستطيع أن نجرؤ على تطهير صلاتنا من العاطفة التي لا تخلو من حبّ الذات؟ هل ندرك أنّه من أراد أن يُتقن الصّلاة الأصيلة التي تصل بنا إلى عمق كيان الله، وجب عليه القبول بالحرمان من كلّ عاطفة بشريّة ولو أن هذا الأمر مؤلم جدًا؟ 

 

 

 

صلاة:

 

نشكرك ونحمدك أيّها الآب السّماوي مع ابنك الوحيد وروحك القدّوس. يا من تُظهر ذاتك للوضعاء ولأنقياء القلوب وتحجب سرّ ملكوتك عن الحكماء والفهماء. دعنا نتواضع أمام عظمتك ونسير إليك ببساطة الأطفال لكي نلج عمق كيانك. هبنا قوّة روحك لكي نستقي دومًا الحكمة من الكتب المقدّسة. أعطنا أن نعيش ما تاق إليه الملوك والأنبياء. قُد خُطانا حين تُربك الخطيئة عقولنا وتجرح فضائلنا. ثبّت اضطراب قلوبنا في اليقين الهادئ لكي نؤمن بأنّك موجود وبأنّك تسهر علينا لئلا تكون جميع سبل الخير مُغلقة أمامنا. دعنا نؤمن أنّه سهل علينا أن نعيش معك في كلّ ما ينتابنا من شدائد وسهل علينا أن نؤمن بك. لك المجد إلى الأبد. أمين.

 

 

 

الأب نبيل حبشي ر.م.م.