الأحد الرابع عشر من زمن العنصرة «الإنجيل

 

 

إنجيل لوقا (10/ 38 -42)

 

 

مرتا ومريم


فيمَا (كَانَ يَسوعُ وتلاميذهُ) سَائِرين، دَخَلَ يَسُوعُ إِحْدَى ٱلقُرَى، فٱسْتَقْبَلَتْهُ في بَيتِهَا ٱمْرَأَةٌ ٱسْمُها مَرْتا.

 

وَكانَ لِمَرْتَا أُخْتٌ تُدْعَى مَرْيَم. فَجَلَسَتْ عِنْدَ قَدَمَي ٱلرَّبِّ تَسْمَعُ كَلامَهُ.

 

أَمَّا مَرْتَا فَكانَتْ مُنْهَمِكَةً بِكَثْرَةِ ٱلخِدْمَة، فَجَاءَتْ وَقَالَتْ: «يَا رَبّ، أَمَا تُبَالي بِأَنَّ أُخْتِي تَرَكَتْنِي أَخْدُمُ

 

وَحْدِي؟ فَقُلْ لَهَا أَنْ تُسَاعِدَنِي!».

 

فَأَجَابَ ٱلرَّبُّ وَقَالَ لَهَا: «مَرْتا، مَرْتا، إِنَّكِ تَهْتَمِّينَ بِأُمُورٍ كَثِيرَة، وَتَضْطَرِبِين!

 

إِنَّمَا ٱلمَطْلُوبُ وَاحِد! فَمَرْيَمُ ٱخْتَارَتِ ٱلنَّصِيبَ ٱلأَفْضَل، وَلَنْ يُنْزَعَ مِنْهَا».

 

 

 

 

تأمّل:  (لمزيد من الإستنارة الروحيّة قراءته بتمهّل طوال الأسبوع).

 

عندما نتصفّح الكتاب المقدّس وتاريخ الحياة الرُّهبانيّة في الشّرق والغرب. ندرك أنَّ الحياة الروحيّة لم تنشأ إلاّ على حياة العمل وحياة الصّلاة اللذين هما يكوّنان ركيزة الحياة المسيحيّة. هذان العنصران يشكّلان أساس الحياة الروحيّة وخاصّة الحياة الرهبانيّة حيث هما بالنسبة لها بمثابة جناحين لا ينفصل أحدهما الواحد عن الآخر.

 

يتناول هذا النصّ عنصر العمل الذي يتمثّل بمرتا وعنصر الصَّلاة الذي يتمثّل بمريم. مرتا ومريم هما اللّتين استقبلتا يسوع في بيتهما. فراحت مرتا تنهمك بكثرة الخدمة وهي مضطّربة مهتمّة بأمور كثيرة، بينما مريم جلست عند قدميّ يسوع تسمع كلامه. لذلك يشدّد الإنجيليّ لوقا في هذا النصّ على سماع كلمة الإنجيل والإصغاء إليها. فيظهر من خلال كلّ ذلك أهميّة الإتحاد بيسوع حيث مريم اختارت النصيب الأفضل ولن يُنزع منها.

 

 "فمريم اختارت النّصيب الأفضل ولن يُنزع منها" يعطي الإنجيليّ يوحنّا دورًا مميزًا لمرتا، فهي ردّدت حرفيًا ما قاله بطرس في إنجيل متى (16/16)، عندما سأل يسوع تلاميذه: "من يقول الناس إني أنا ابن الإنسان؟" فكان جواب بطرس: "أنت هو المسيح إبن الله الحيّ". آية معبّرة عن هويّة يسوع الإلهيّة.

 

أمّا في إنجيل القدّيس لوقا تظهر مرتا غير مكترثة إلّا للخدمة فقط، فهي تريد من أختها مريم أن تساعدها بدل الجلوس عند قدمي يسوع تسمع كلامه. لذلك لا يخلو جواب يسوع لها من عتاب: "مرتا مرتا تهتمِّين بأمورٍ كثيرة"، ومن مديح لأختها مريم حيث: "مريم اختارت النصيب الأفضل".

 

 لذلك يشدّد القدّيس لوقا في هذا الإنجيل على سماع كلمة الله الحيّة وعلى أولويتها في حياة كلّ مؤمن. هذا لا يعني التخلّي عن الخدمة والعمل في الحياة اليوميّة، بل أن يكون العمل مبنيّ على الصّلاة والتأمل لكي يصل إلى هدفه ودون هذا يكون مصيره الفشل. إنّ عنصر الصّلاة والعمل هما عنصران متلازمان لحياة المؤمن لا يسير الواحد دون الآخر. لقد ردّد يسوع في هذا المجال قائلاً: "فقال لهم: أدّوا لقيصر ما لقيصر ولله ما لله" (مر12/ 17).

 

  لقد أصبحنا نعيش اليوم في عالم يحاول دومًا أن يستثمر كلّ طاقاتنا حيث أصبحنا نعطي كلّ وقتنا لقيصر وأصبح الله على هامش حياتنا المسيحيّة. لذلك نشهد هناك أناس في عالمنا اليوم يضيّعون صحّتهم من كثرة العمل لكي يجمعوا المال ثمّ يصرفون المال لكي يستعيدوا صحّتهم. ثمّ هناك أناس يفكّرون بالمستقبل بقلق وينسون الحاضر فلا يعيشون الحاضر ولا المستقبل بسبب كثرة أعمالهم.

 

لقد ردّد القدّيس برنردوس: "إن كنت تصرف كلّ حياتك وكلّ حكمتك في العمل، ولا تحتفظ منهما بشيءٍ للتفكير والتأمل، أتراني أمدحك؟ لا! ولا أحد يمدحك، مِمّن سمعوا كلمة الحكيم: "من حدّ عمله وجد الحكمة". هذا، وإنّ العمل نفسه يحتاج إلى أن يسبقه تفكير".

 

إنّ الصّلاة والعمل هما جناحين غير منفصلين ومَن يُمارس الصّلاة دون العمل أو العمل دون الصّلاة فهو كمن يريد أن يطير دون جناحين. إنّ الإنسان الرّوحانيّ هو مَن يحاول أن يجعل حياته متزنة بين صلاته وبين عمله أي أن يكون هناك تطابقـًا كاملاً بين أقواله وأفعاله. لذلك إنّ الله لا يُريدنا أن نخلد إلى النوم في الكنيسة ونهمل عملنا، بل أن يكون هو أولويّة في معترك حياتنا اليوميّة.

 

في أغلب الأحيان أصبحنا نعيش في عالم مشتّتون وفي إحتياج إلى أن نجد ركيزة لحياتنا، ولا يوجد محور أو مركز إلاَ في الله، حيث كلّ وجودنا يدور حوله. لذلك فإن لم نجعل منه محورًا وخاصةً في عملنا سوف نظل في حالة تشتّت وضياع. إنّ سِرَّ التأمل والصّلاة هو ليس الهروب من العالم بل الغوص فيه لنجد صميم معنى حياتنا وغاية وجودنا. عندما يصبح الله أولوية في حياتنا ونضعه في مقدّمة كلّ عمل من أعمالنا، عندئذ لن تصبح أعمالنا بعيدة عن الله، بل ستكون طريقنا إليه ووسيلة للاتِّحاد به، وبهذا يكون الله حاضرًا في قلب عملنا وحياتنا.

 

 نحن غالبًا ما نبحث عن الله كأنّه خارجًا عن ذواتنا، حيث إنّنا تعوّدنا من خلال قراءتنا الكتاب المقدّس أن ننظر إلى الله على أنّه يسكن في أعلى السّموات ونظنّ أنّ هناك مسافة شاسعة بيننا وبينه. لكن الله هو في صميم كياننا وعملنا وهو يقود تاريخنا من الدَّاخل وليس من الخارج، لذلك ردّد يسوع: "فها أن ملكوت الله بينكم" (لو 17 /21). إنّ الله موجود في قلب حياتنا وعملنا ونحن أغلب الأحيان لا نؤمن بهذه المقولة. هنا يأتي دور الصّلاة والتأمل، ففي حياتنا رسائل كثيرة من الله ونحتاج إلى هدوء لكي ندركها ونتأمل فيها.

 

الإنسان الرّوحانيّ المسيحيّ في عالم اليوم هو من يستطيع أن يروحن الوسائل والمقدّرات ويتاجر بالوزنات التي وضعها الله بين يديه، هذا يعني أن نصبح قادرين على رؤية الله من خلال كلّ شي. لذلك هنالك تحدٍّ دائم في عالمنا اليوم وهو أن نحوّل عملنا إلى رسالة خدمة ومحبّة ولكي يتحوّل عملنا إلى رسالة يُجسّد حضور الله يجب أن يُبنى على الصّلاة وعندما نبدأ نهارنا بالصّلاة والتأمل يتحوّل عملنا إلى صلاة ورسالة.

 

إنّ دور الصّلاة في حياتنا وعملنا هو أنّه يجعلنا نسيطر على ذواتنا وخاصةً على تصرّفاتنا السَّيئة التي قد تصدر عنّا وتؤذي الذين وضعهم الله على دروب حياتنا. لقد ردّد يسوع في هذا المجال: "من غضب على أخيه استوجب حكم القضاء، ومن قال لأخيه يا أحمق استوجب حكم المجلس" (متى 5/ 22).

 

 

كيفيّة ممارسة التأمل والصّلاة وأهميتهما في حياتنا اليوم:

 

إنَّ التأمل الحقيقيّ في الحياة المسيحيّة هو أعلى درجات إكتشاف الله. لذا نحن نستطيع أن نعيش الله بقدر ما نكتشفه فبقدر ما نكتشفه نستطيع أن نعيشه ونختبره في أحداث تاريخنا السَّيئة والحسنة. يربط مار إسحاق السُّرياني التأمُّل بالصّلاة التي يستطيع الإنسان من خلالها أن يرى الله ويكتشف لاهوته كما اكتشفته مرتا وكما تأملّت به مريم. هناك قول مأثور هو خير دليل على ذلك عندما يقول: "إن كنت لاهوتيًا فأنت تصلّي حقيقة وإذا كنت تصلّي فأنت لاهوتيّ". فمن من خلال ممارسة التأمّل والصّلاة نكتشف بصورة أوضح وحدة الحياة المسيحيّة.

 

لذلك فالصَّلاة في هذا المجال هي محاولة للتعرّف تصاعديًا على الله وليس وقتًا لترداد كلمات أو نصوص دون هدف إكتشاف الله. من هنا الخطيئة الأصليّة التي هي جهل الأشياء التي توصل إلى معرفة الله أي لا أريد أن أنمو في اكتشافه ولا أريد أن أزيد في وسائل معرفتي له أي أكتفي بما أنا عليه هذه هي الخطيئة الأصليّة وهو أن يبقى كلّ منّا في مكانه أي مكتفي بذاته. لذلك فالصّلاة والتأمل هما مثل الرئتين يُكمّلان بعضهما البعض. لذا فالمتأمل الرّوحي هو من يعيش في حالة مستمرَّة ومحاولة إكتشاف الله من خلال الأحداث والأشخاص.

 

إنّ التأمّل حسب القدِّيس يوحنّا الدِّمشقيّ هو العودة إلى الفردوس الضّائع يعني أن أكتشف الله من خلال علاقة شخصيّة أن أسجد على أقدام يسوع مثل مريم لكي أتعرّف عليه من خلال الكتب المقدّسة وممارسة الأسرار وخاصّة الإفخارستيا التي هي أعلى درجات إكتشاف الله حيث إكتساب الخلاص يأتي من خلال عطيَّة سِرّ الإفخارستيا.

 

ثمّ الصّلاة أمام الأيقونة التي تساعد الإنسان من خلال رؤية المحسوس إلى الدّخول في عالم الله اللّامحسوس. لذلك إنّ كلّ أيقونة لها خلفيَّتها اللاهوتيّة وهي تعبّر بشكل أو بآخر عن تاريخ الخلاص. لذلك يقول القدّيس إسحاق السُّرياني: "إنّ الأيقونة هي عظة صامتة أمامنا تلامس قلبنا وعقلنا وتدخلنا إلى عالم الله دون أن تتكلّم".

 

نحن مدعوُّون أن نؤمن بأنّ كلّ ما نطلبه في الصّلاة يستجيب له الله وفوق ما نتخيّله. في الكثير من الأحيان نظنّ أنّ صلواتنا لا تستجاب ونقع بالشكّ كما زكريا عندما بشَّره الملاك بولادة يوحنّا، ونظنّ بأنّ الله قد نسي طلباتنا ولم يعد يسمعنا. إذا كان الله لا يسمعنا فلأنّه يعدّ لنا ما هو أفضل. لذلك من غير الجائز أن نشكّ فيه، كما أنّ الإبن لا يشكّ في أبيه الأرضيّ لأنّه يمنح الصّالحات. لكن نحن غالبًا ما نطلب من الله شيئًا دون أن نُدرك إذا كان خيرًا لنا أم شرًّا. نقرأ في الكتاب المقدّس: "وإذا امرأة كنعانيّة خارجة من تلك البلاد تصيح: "رُحماك يا ربّ يا ابن داود إنّ ابنتي يتخبّطها الشّيطان تخبّطًا شديدًا، فلم يجبها بكلمة" (متى 22 /15).

 

غالباً ما ينتابنا شعور في الكثير من الأحيان بأنّ الله يبدو صامتًا أمام طلباتنا ونحن نشعر أنّنا بأمسِّ الحاجة إليه. لكن الله من خلال هذا يريد أن يمتحن إيماننا لكي نُدرك ذواتنا ونُحدث قفزة نوعيّة كما المرأة الكنعانيّة فنعبر من الإيمان السطحيّ إلى الإيمان الحيّ والحقيقيّ.

 

لذا نحن مدعوُّون اليوم أن نفحص ضمائرنا ونسأل ذواتنا ما مدى معرفتنا لله؟ لقد قال يسوع لنيقوديمس: "أأنت معلمٌ في إسرائيل وتجهل هذه الأشياء" (يو 10/ 3). فالخطورة تكمن في حياتنا اليوم إذا كنّا ندرك كلّ شيء ومعرفتنا لله لم تزل لا شيء. لذلك فمسيرة حياتنا تتطلّب أن نعود دومًا إلى ذواتنا مثل الرّجل الذي يسافر إلى بلد بعيد ويمسك الخريطة في يده وكلّ ما قطع مسافة يتوقـَّف وينظر إلى الخريطة لكي يُدرك إذا كان يسلك في إتجاه الهدف الذي يسير نحوه.

 

في النهاية ومن خلال كلّ ما تقدّم تعلّمنا مريم اليوم إذا أهملنا كلمة الله ولم نتأمّل ونعمل بها سوف نُضحي عرضة لكلّ التقلّبات ومِحَن الحياة الصّعبة التي تبلبل تاريخنا وتنزع من قلوبنا كلّ ميلٍ إلى السّلام والفرح والطمأنينة. لذلك فبعيدًا عن الإيمان لا نستطيع مواجهة كلّ هذه التحدّيات. إنّ كل هذا غالباً ما يقودنا الى الإستسلام والإحباط ومن ثمّ إلى الموت الروحيّ حيث نخسر معنى حياتنا وغاية وجودنا.

 

 لذلك تعلّمنا مريم بأنّ التأمل بكلمة الله وحفظها والثبات عليها في عالم اليوم هو بمثابة ضمانة ومخرج خلاصيّ لنا في مسيرة حياتنا حيث تجنّبنا كلّ المِحن والشّرور. لذلك تبقى كلمة الله بالنسبة لكلّ مؤمن بمثابة أرباك السيارة (Air back) الذي يظهر عندما تصطدم سيارة بأخرى فيخفّف من قوّة الإصطدام لينجوَ الذين في الداخل من الموت. هذا ما تفعله قوّة الإيمان في حياتنا اليوم. لذلك عندما تكون كلمة الله ثابتة قي ضمائرنا ونفوسنا لا شيء يستطيع أن ينتزع فرحه من قلوبنا. فبها نحمي ذواتنا وتخفّ جسامة المحن التي تعترض مسيرة حياتنا.

 

 

أسئلة للتأمل والتفكير:

  1. هل الله بالنسبة لنا أولويّة في حياتنا اليوم؟ هل ندرك بأنّ روح هذا العالم الذي تكلّم عنه الإنجيليّ يوحنّا يدخل إلى حياتنا من باب الحاجة ويقودنا دون أن ندري إلى الكثير من الإنشغالات ويجعلنا منهمكين بكثرة الأعمال لكي لا يظلّ لله مكاناً في حياتنا؟

 

2. هل لدينا الجرأة المسيحيّة لكي نضع دومًا حائطاً للأشياء التي باتت تُبعدنا عن جوهر حياتنا الروحيّة؟ هل نؤمن بأنّه عندما نحفظ كلمة الله ونتأملها كلّ يوم نستطيع أن نحمي ذواتنا من الحياة الماديّة التي غالباً ما تستنذف حياتنا وتنزع من قلوبنا كلّ سلام وفرح؟

 

 

3. ماذا يعني لنا هذا القول في حياتنا اليوم؟ "من يسيطر على ذاته هو أعظم ممَّن يفتتح المدن" هل ندرك بأنّ الإنسان الروحانيّ هو مَن يملك القدرة على التحكّم بحياته والسيطرة على ميوله ويوجّه حياته وليس من يعيش حسب مدلولات قلبه؟

 

 

 

صلاة:

 

نسجد أمامك أيّها الرّبّ يسوع ونصلّي إليك برغبة مريم وغيرة مرتا ونحن لم نزل في السّطور الأولى من صفحات إنجيلك. ألهـِم ضمائرنا لكي نبحث دومًا عنك في الكتب المقدّسة التي تقود قلوبنا إليك. إجعلنا لا نختار سواك عندما ننهمك بكثرة العمل حيث العالم ينهشنا وينزع سلامك من نفوسنا. نحن نريد أن نكتشفك في داخلنا لتكون الركيزة الأولى والأخيرة في مجرى تاريخنا. دعنا نكون في وحدة تامّة بين صلاتنا وعملنا، فنعمل هذه ولا نهمل تلك. نريد أن ندرك سِرَّ حضورك عندما تتدخّل في أحداث يومنا لتنتشلنا من اضطرابنا وخوفنا. أعطنا شجاعة تغيير الأشياء التي لا نستطيع تغييرها، والهدوء لنقبل ما لا نستطيع تغييره والحكمة لنميّز بينهما. لك المجد إلى الأبد. آمين.

 

 

الأب نبيل حبشي ر.م.م.