الأحد الخامس عشر من زمن العنصرة «الإنجيل

 

 

 

 

توبة المرأة الخاطئة


إنجيل لوقا (7/  36 -50)

 

 

سَأَلَ وَاحِدٌ مِنَ الفَرِّيسيِّينَ يَسُوعَ أَنْ يَتَناوَلَ الطَّعَامَ مَعَهُ، فَدَخَلَ بَيْتَ الفَرِّيسيِّ وٱتَّكَأ.

 

وإِذا ٱمرَأَةٌ، وَهِي الَّتِي كانَتْ في المَدينَةِ خَاطِئَة، عَلِمَتْ أَنَّ يَسوعَ مُتَّكِئٌ في بَيْتِ الفَرِّيسيّ، فَجَاءَتْ تَحْمِلُ

 

قَارُورَةَ طِيب.

 

وَوَقَفَتْ بَاكِيةً وَراءَ يَسُوع، عِنْدَ قَدَمَيْه، وَبَدَأَتْ تَبُلُّ قَدَمَيهِ بِالدُّمُوع، وتُنَشِّفُهُمَا بِشَعْرِ رَأْسِهَا، وتُقبِّلُ قَدَمَيْه،

 

وَتَدْهُنُهُمَا بِالطِّيب.

 

وَرأَى الفَرِّيسِيّ، الَّذي دَعَا يَسُوع، مَا جَرَى، فَقَالَ في نَفْسِهِ: «لَوْ كانَ هذَا نَبِيًّا لَعَلِمَ أَيَّ ٱمرَأَةٍ هِيَ تِلْكَ

 

الَّتي تَلْمُسُهُ! إِنَّهَا خَاطِئَة».

 

فَأَجَابَ يَسوعُ وَقَالَ لَهُ: «يا سِمْعَان، عِنْدِي شَيءٌ أَقُولُهُ لَكَ». قالَ الفَرِّيسِيّ: «قُلْ، يَا مُعَلِّم».

 

قالَ يَسُوع: «كانَ لِدَائِنٍ مَدْيُونَان، أَحَدُهُمَا مَدْيُونٌ بِخَمْسِمِئَةِ دِينَار، والآخَرُ بِخَمْسِين.

 

وإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا ما يُوفِيَان، سَامَحَهُمَا كِلَيْهِمَا. فأَيُّهُما يَكُونُ أَكْثَرَ حُبًّا لَهُ؟».


أَجَابَ سِمْعَانُ وَقَال: «أَظُنُّ، ذَاكَ الَّذِي سَامَحَهُ بِالأَكْثَر». فَقَال لَهُ يَسُوع: «حَكَمْتَ بِالصَّوَاب».

 

ثُمَّ ٱلتَفَتَ إِلى المَرْأَةِ وَقالَ لِسِمْعَان: «هَلْ تَرَى هذِهِ الْمَرْأَة؟ أَنَا دَخَلْتُ بَيْتَكَ فَمَا سَكَبْتَ عَلى قَدَمَيَّ مَاء، أَمَّا

 

هِيَ فَقَدْ بَلَّتْ قَدَمَيَّ بِالدُّمُوع، وَنشَّفَتْهُما بِشَعْرِها.

 

أَنْتَ لَمْ تُقَبِّلْنِي، أَمَّا هِيَ فَمُنْذُ دَخَلْتُ لَمْ تَكُفَّ عَنْ تَقْبِيلِ قَدَمَيَّ.

 

أَنْتَ مَا دَهَنْتَ رَأْسِي بِزَيْت، أَمَّا هِيَ فَدَهَنَتْ بِالطِّيبِ قَدَمَيَّ.

 

لِذلِكَ أَقُولُ لَكَ: خَطايَاهَا الكَثيرةُ مَغْفُورَةٌ لَهَا، لأَنَّها أَحَبَّتْ كَثيرًا. أَمَّا الَّذي يُغْفَرُ لَهُ قَليلٌ فَيُحِبُّ قَلِيلاً».

 

ثُمَّ قَالَ لِلْمَرْأَة: «مَغْفُورَةٌ لَكِ خَطايَاكِ!».

 

فَبَدَأَ المُتَّكِئُونَ مَعَهُ يَقُولُونَ في أَنْفُسِهِم: «مَنْ هُوَ هذَا الَّذي يَغْفِرُ الخَطايَا أَيْضًا؟».

 

فَقالَ يَسُوعُ لِلْمَرْأَة: «إِيْمَانُكِ خَلَّصَكِ! إِذْهَبِي بِسَلام!».

 

 

 

 

 

تأمل: (لمزيد من الإستنارة الروحيّة قراءته بتمهّل طوال الأسبوع)

 

 

غالبًا ما يتكلّم الكتاب المقدّس في العهد القديم بإسهاب عبر صفحاته عن ضرورة وأهميّة التوبة في حياة الإنسان حيث شكّل عنصر التوبة بالنسبة إلى الأنبياء محور رسالتهم الخلاصيّة؛ وهذا ما كان يردّده آخر هؤلاء الأنبياء يوحنّا المعمدان في مطلع رسالته التبشيريّة إذ كان يدعو الخطأة: "توبوا فقد اقترب ملكوت الله" (متى 2 /3)؛ وهذا ما يتردّد أيضًا في نصوص جميع الأناجيل وخاصّة لدى الإنجيليّ لوقا فأطلق علماء الكتاب المقدّس على إنجيله لقب: "إنجيل رحمة الله" تجاه كلّ إنسان خاطئ وبنوعٍ خاصّ تجاه المرأة.

 

هذا ما نشهده من خلال تلك المرأة التي أعاد إليها يسوع كرامتها المجروحة وحقوقها المسلوبة بعد أن كانت تعيش على هامش حياة المجتمع اليهوديّ الذي حطّمها بعد أن استغلّ ضعفها البشريّ.

 

يتفرّد الإنجيليّ لوقا بذكر "توبة المرأة الخاطئة" ولم يذكر مطلقاً إسمها لتظلّ مثالاً حيّّا لكلّ خاطئ يتوب إلى الله فتُغفر خطاياه، لكلّ خاطئ يبحث عن حقيقته في الله الذي ينتظر عودته مهما عَظُمَت خطيئته لأنّ رحمة الله تتخطّى كلّ أنواع الخطايا ومدى محبّته وغفرانه للإنسان الخاطئ يتجاوز كلّ إعتباراتنا وأحكامنا الظّالمة والجائرة بحقّ إخواننا وأخواتنا في الإنسانيّة المثقلة بعواقب الخطيئة الأصليّة التي دمّرت توازن الطّبع البشريّ.

 

"فقال يسوع للمرأة: إيمانك خلّصك إذهبي بسلام" يظهر الفريسييّون دومًا في الأناجيل وخاصّةً في إنجيليّ متى ومرقس على أنّهم من ألدّ أعداء يسوع إذ كانوا يراقبونه ويضعون جميع أعماله وأقواله تحت المجهر لكي يصطادوه بكلمة ما من فيه.

 

فالبرغم من عداوتهم اللّدودة له يبدو أنّ البعض منهم، في إنجيل لوقا، كانوا أصدقاء له ومن بينهم سمعان الفرّيسي الذي دعا يسوع لتناول الطعام في بيته.

 

نقرأ في إنجيل لوقا أنّ هناك امرأة  في المدينة معروفة "بالخاطئة" بدون ذكر إسمها ولا هويّتها لأنّ للإسم خلفيّة لاهوتيّة في الكتاب المقدّس يدلّ على هويّة الشّخص. لذلك لم يذكر الإنجيليّ اسم هذه المرأة بل اكتفى بصفة واحدة "الزانية" فحلّت هذه الصفة الوحيدة مكان إسمها الشخصيّ.

 

وهذا ما نجده أيضًا في مَثَلِ الغنيّ الذي لم يُذكر له إسم سوى "الرّجل الغنيّ": "وكان رجل غنيّ يلبس الأرجوان...وكان رجل فقير اسمه لعازر" (متى 19/ 16-20). هذه المرأة فقدت هويّتها الحقيقيّة مِثل ذاك "الرّجل الغنيّ" فأصبحت الخطيئة هويّتها بالنسبة إلى المجتمع، ولم يذكر لوقا اسمها أيضًا لأنّها تمثّل كلّ الخطأة في العالم.

 

 هذه "المرأة الخاطئة" هي مِثل زكّا العشّار راحت تبحث عن السّعادة الحقيقيّة التي لم تجدها في أوهام الخطيئة المزيّفة ولم تعد تستطيع أن تتحمّل وزر خطيئتها، لذا راحت تفتّش عن ينبوع السّعادة ولسان حالها يردّد مع صاحب المزامير: "أثامي جاوزتْ رأسي وثقُلتْ كحِملٍ أثقلَ من طاقتي" (مز 5/38).

 

هذه "المرأة الخاطئة" هي مِثل المرأة النازفة كان عندها الثقة والجرأة والشجاعة وغامرت بإيمانها فأصبح يسوع بالنسبة لها الأمل الوحيد والأخير في حياتها. دخلت بيت سمعان الفريّسي، وأخذت تبلّ قدميّ يسوع بالدموع وتنشّفهما بشعر رأسها وتقبّل قدميه وتدهنهما بالطيب على مرأى من سمعان الفرّيسي لقد تواضعت حتّى الإمّحاء لأنّ التواضع هو بداية معرفتنا لذاتنا وطريقنا الوحيد نحو الله.

 

فعندما رأى سمعان ما فعلت بدأ يتذمّر ويفكّر كيف أنّ يسوع، وهو "نبيّ الله"، يرضى بأن تلمسه تلك "المرأة الخاطئة" والمشهورة في المدينة. أمّا يسوع فعرف كلّ ما كان يجول في تفكيره وما يختلج في صدر تلك الخاطئة المنبوذة من قِبَلِ رجال المجتمع بعدما استغلّوا هنيهات ضعفها البشريّ.

 

لذلك أجاب يسوع بمَثَلٍ ثمّ أثنى على العمل الذي قامت به تلك المرأة إذ أنّها أنجزت ما كان يتوجّب على سمعان أن يقوم به لأنّه هو صاحب البيت وعليه هو أن يتمّم واجبات الضيافة. لذلك توجّه يسوع إلى تلك "المرأة الخاطئة" غافرًا لها كلّ خطاياها ومثنيًا على عظمة إيمانها الذي أعادها إلى حظيرة شعب الله بعد أن طهّرها من خطاياها فحصلت على السّلام الداخليّ وعلى الخلاص وملء الحياة.

 

إنَّ إرتداد هذه "المرأة الخاطئة" لم يجعلها تتخلّى عن عطايا الله لها، بل أرادت أن تستعمل كلّ هذه المواهب والإغراءات التي استعملتها لجذب الآخرين إلى شباك الخطيئة فحولّتها إلى خدمة الله والإنسان بعد أن كانت استعملتها في طريقة غير مشروعة وغير مسموح بها إنسانيًّا واجتماعيًّا وروحيًّا وأدبيًّا في ديانتها ومجتمعها.

 

فالله لا يريدنا أن ننبذ الأمور الحسنة بل أن نحوّلها إلى خدمة الآخرين بطريقة سليمة ومفيدة. علينا ألاّ نهدر مواهبنا التي نستعلمها في الكثير من الأحيان بطريقة خاطئة، بل أن نستعمل كلّ ما وهبنا إيّاه الله ونضعه في خدمة الآخرين.

 

فعظمة الديانة المسيحيّة هي أنّها لا تنبذ شيئاً بل تقبل كلّ شيء وتحوِّله إلى أداة مفيدة، صالحة وحسنة إذ أنّ الله، منذ البدء، خلق كلّ شيء حسنًا وأجملُ خلقِ الله هو الإنسان الذي خلقه على صورته ومثاله ووهبه العقل والإرادة والحريّة وسلّطه على أعمال يديه... وأحبّه حبًّا أبديًّا حين لم يكنْ باستطاعته أن يحبّه! وحين يفنى كلّ شيء يريد أن يصل إليه في السّماء ليعيش دومًا في ظلال محبّته الأبويّة؛ لأنّ الإنسان هو مجد الله، الأب العطوف والرّحوم الذي لا يريد أن يموت الخاطئ بخطيئته بل أن يتوب فيحيا.

 

ونحن غالباً ما نطلق أحكامنا الجارفة على الآخرين مِثلَ سمعان الفرّيسي لأنّنا نحكم فقط على النتائج الظاهرة ونتجاهل الأسباب التي تستعبد الإنسان وتدفعه في الكثير من الأحيان إلى إقتراف الخطايا والأعمال التي تقود كلّ واحد منّا إلى ما لا نرغب به، وهذا ما يختبره كلّ واحد منّا في معترك الحياة اليوميّة.

 

نحن البشر نحكم غالبًا على الشيء الذي نراه بالعين المجرّدة أمّا الله فيحكم على الأمور التي لا نستطيع نحن أن نراها. فالله وحده يدرك تلك الأسباب التي تتحكّم بالإنسان وتجعله يفقد السيطرة على ذاته. يقول إسحاق السّرياني في هذا المجال: "متى يعرف الإنسان أنّ قلبه بلغ النقاوة؟ عندما يحسب الناس كلّهم صالحين، ليس بينهم أحدٌ غير نقي! إذّاك يكون قلب الإنسان في الحقيقة نقيًّا".

 

إنّ الإنسان يُقتل مرّتين: أوّلاً: عندما يموت، وثانياً: عندما يُقتل بسمعته وصيته ويُشهَّر به وفي هذا الصّدد يقول الكتاب المقدّس: "كثيرون سقطوا بحدّ السَّيف لكنّهم ليسوا كالسَّاقطين بحدّ اللسان" (سي 18 /28).

 

وما يحدث في عالمنا اليوم عبر وسائل الإعلام وخاصّةً منها وسائل الإعلام الغربيّة التي غالبًا ما تفتقد إلى الموضوعيّة وإلى الرّوح المسيحيّة، فتحطّم الكثيرين وتقتل مسستقبل الكثيرين وهذا ما يتناقض مع روح الحياة المسيحيّة التي تتجلّى بكلام بولس الرّسول: "فالمحبّة لا تُنزل بالقريب شرًّا، فالمحبّة إذاً هي كمال الشّريعة" (روم 10/ 13).

 

عظمة التوبة والغفران وأهميّة البحث والتغيير في حياتنا اليوم: يقول البابا بولس السادس: "إنّ التفتيش هو ميزة عصرنا! ولِمَ لا نفتّش عن الله؟ أليس الله قيمةً تستحقّ أن نفتّش عنها؟". إنّ هذه "المرأة الخاطئة" خرجت من ظلمة الخطيئة لكي تفتّش عن خلاصها بالله مِثلَ المعلّم نيقوديموس وزكّا العشّار لأنّ التفتيش عن الله هو بداية سلوك طريق الله فهذه "المرأة الخاطئة" جاءت تبحث عن المسيح لكي تروي ظمأها وتشبع جوعها الدَّاخلي والتي لم تستطع أن تجدهما في مغريات الخطيئة.

 

هذه المرأة الخاطئة راحت تفتّش عن الخلاص لكي تضع حدًّا لخطيئتها التي استنزفت حياتها ومن يبحث عن الله يجده في أعماق كيانه. فالخطيئة نزيف دائم في حياتنا تستنزف كلّ مواهبنا وتهدر جميع طاقاتنا. فالنزيف الذي تسبّبه الخطيئة في حياتنا لا يتوقّف إلّا عندما نتقدّم إلى سِرِّ التوبة لنحصل من خلاله على الغفران الذي يجدّدنا ويخلقنا إنسانيًّا وروحيًّا من جديد ونحن نصرخ إلى الله من أعماق بؤسنا وشقائنا الروحيّ: "قلبًا نقيًّا أخلِق فيّ يا الله وروحًا مستقيمًا جدّد في داخلي... القلب المتخشّع المتواضع لا ترذله يا ألله... إغسلني من إثمي ومن خطيئتي طهّرني لأنّي إليك وحدك خطِئتُ والشرّ قدّامك صنعتُ" (مزمور 50).

 

 لذلك يشكّل عنصر التوبة ركيزة الحياة الروحيّة والحياة المسيحيّة، لأنّها عطيّة مجّانية من لدن الله نحصل عليها من خلال الصّلاة وتلاوة المزامير خاصّةً مزامير التوبة والمشاركة الفعّالة بالإفخارستيّا. تتجلّى عظمة التوبة في حياتنا من خلال ذرف دموع النّدامة على مثال هذه "المرأة الخاطئة" ومن خلال التأسّف على الأفعال السَّيئة الماضية والوقت الضّائع الذي لم يدرك فيه الإنسان الخاطئ مدى اكتشاف غفران الله ورحمته اللّامحدودة.

 

في هذا الصّدد يشرح لنا أوريجانوس أنواع المسامحة والغفران الواردة في الإنجيل المقدّس: "الأوّل هو المعموديّة لغفران الخطايا؛ والثاني هو الإستشهاد؛ والثالث هو الصّدقة والحسنة؛ والرّابع هو أن نغفر نحن بدورنا لإخوتنا؛ والخامس هو الإسهام في إرتداد خاطئ عن ضلاله، لأنّ الكتاب المقدّس يقول: من يردّ خاطئاً عن ضلاله يخلّص نفسه من الموت ويستر جمًّا من الخطايا؛ والسادس هو المحبّة العظمى حسب قول الربّ نفسه: الحقّ أقول لكَ إن خطاياها الكثيرة تُركت لها لأنّها أحبّت كثيرًا وحسب قول بطرس الرّسول: المحبّة تستر جمًّا من الخطايا؛ والسابع إنّما هو التوبة وهو أقسى وأصعب، أعني عندما يبلّل الخاطئ فراشه بدموعه حيث لا يبقى له من خبز يوميّ سوى الدموع ليلاً نهارًا وعندما لا يعود يستحي من أن  يكشف خطاياه لكاهن الربّ ليحصل منه على الدواء الشّافي".

 

إذاً، من خلال ممارسة سرّي الإفخارستيا والتوبة يعيش كلّ واحد منّا "سفر خروج روحيّ" بشكلٍ مستمرّ إذ يحقّق بتوبته العبور من الإنسان القديم إلى الإنسان الجديد ومن ظلمة الخطيئة إلى أنوار النعمة.

 

لذلك تشهد حياتنا الروحيّة عبورًا دائمًا لأنّ الإستعباد من جرّاء خطايانا يظلّ يلاحقنا على الدّوام. فعندما نشعر بأنّنا قد تحرّرنا، بعض الأحيان، من رواسب الخطيئة، يتبيّن لنا بأنّ "إنسان الخطيئة" يعود فيظهر بطرق مختلفة ما كنّا نتوقّعها: كان أحد النسّاك يردّد في صومعته قائلاً: "لقد متّ عن العالم ولم أعد أحيا حياة الجسد" فأجابه جاره الناسك قائلاً له:" لكن الشّرير لم يمت".

 

إنَّ هذا العبور هو عمليّة متواصلة لا بدّ من أن نقوم خلالها بعمل توبة مستمرّة لا يتوقّف إلا عند ساعة الموت. فالحياة الروحيّة إذاً هي تجدّد دائم مثلما يتجدّد النّسر على حدّ قول صاحب المزامير: "يُشبع سنيكِ خيرًا فيتجدّد كالنسر شبابك" (مز 103/ 5). فالنسر هو صورة معبّرة عن أهميّة التجديد في حياتنا الروحيّة؛ إذ يعيش سبعين سنة ولكي يبلغ إلى هذا العمر الطويل عليه أن يتّخذ قرارًا صعبًا ويخضع لعمليّة تغيير جذريّة لا تخلو من العذاب والألم.

 

عندما يبلغ النسر أربعين سنة تعجز أظافره التي كانت تتميّز بالمرونة عن الإمساك بالفريسة التي هي مصدر غذائه؛ ومن ثمّ يصبح منقاره القويّ والحادّ معكوفـًا وشديد الإنحناء؛ ومع تقدّمه بالعمر تمسي أجنحته ثقيلة بسبب ثقل وزن ريشها وتلتصق بالصَّدر ويضحي الطيران بالنسبة إليه في غاية الصّعوبة.

 

وهذه الظروف الحياتيّة الصّعبة تضع النسر أمام خيارين: إمّا أن يستسلم للموت وإمّا أن يخضع لعمليّة تغيير مؤلمة تستمرّ مئة وخمسين يومًا وتتطلّب منه بأن يقوم بالتحليق إلى أعلى قمّة الجبل حيث يركّز وكره.

 

أوّلاً: يقوم هذا النسر بضرب منقاره بشدّة على صخرة حتى تنكسر مقدّمته المعكوفة ومن ثمّ ينتظر حتى ينمو منقاره من جديد. ثانياً: يقوم بعد ذلك بكسر مخالبه أيضًا وبعد أن تنمو مخالبه، يبدأ في نتفِ ريشه القديم وبعد إجراء هذه العمليّة المؤلمة التي تستمر خمسة أشهر يطير محلّقاً في السّماء وكأنه وُلد من جديد ليعيش ثلاثين سنة أخرى وهكذا "يجدّد شبابه"! فلنتعلّم الحكمة من ملك الطيور لكي نجدّد نحن أيضًا شباب حياتنا الروحيّة فنحلّق في رحاب السّماء حتى نصل إلى الله!

 

لماذا نحتاج نحن إلى مِثلِ هذا التغيير في حياتنا الروحيّة؟ في الكثير من الأحيان إنّنا نحتاج إلى الخضوع  لعمليّة تغيير لكي لا نصل إلى الموت الروحيّ الذي تقودنا إليه حتمًا مغريات الخطيئة. نحتاج إلى هذا التغيير إذا كنّا نريد حقّاً التكيّفِ مع متطلّبات حياتنا الروحيّة حيث الخطيئة تفصلنا عن محيطنا وعن ذواتنا وعن الله. لكنّنا نعلم جيّداً أن عمليّة هذا التغيير أي سلوك طريق التوبة ليست حصرًا ضمن إمكانياتنا البشريّة بل هي نعمة تُعطى لنا من لدن الله وعلينا أن نطلبها منه بإلحاح.

 

هذا التغيير غالبًا ما يدفعنا إلى أن نتخلّص من ذكرياتنا القديمة وعاداتنا المتأصِّلة فينا وتقاليدنا البالية وكلّ ما فيها من سوء التي تكبّلنا وتمنعنا من عمليّة النمو والتّحليق في حياتنا الروحيّة. فبقدر ما نتحرّر من أعباء الماضي ورواسبه السَّيئة التي تستعبدنا، بقدر ما ننفتح على نور نعمة الله. هذا التحرير الذي لا يخلو من الألم يجعلنا نعيش حاضرنا ونخطّط لمستقبلنا.

 

لذلك نحن مدعوّون إلى أن ندرك بأنّ أسمى لحظات تاريخنا هي التي نعيشها لكي عندما نشعر في أعماق نفوسنا بأن شيئاً في داخلنا قد تبدّل عملاً بقول بولس الرّسول: "أناشدكم أن تُقلعوا عن سيرتكم الأولى فتخلعوا الإنسان القديم الذي تفسده الشهوات الخادعة وأن تتجدّدوا بتجدّد أذهانكم الروحيّ" (أفس22/4-23). وتجدّد شباب النسر شاهد على ذلك وعبرة لنا في عالم اليوم لكي نعيش في "ربيع روحيّ" دائم ونسعد في حياتنا...

 

 

 

أسئلة للتأمل والتفكير:

  1. 1- ما هي نظرتنا الإيمانيّة إلى الذين حجّمهم المجتمع بسبب أخطائهم؟ وهل نصلّي من أجلهم؟ ماذا يعني لنا اليوم هذا القول: "لا تدينوا لئلاّ تُدانوا" هل نعي جيّداً بأنّنا نحن أيضًا معرّضون للسّقوط كما يقول بولس الرّسول: "إنّ من لم يسقط فليفزع من السّقوط"؟

 

2-هل نعلم بأنّ الشّرير يقطع علينا الطريق المفضي إلى الله ويُتلف مواهبنا وأنّ طريق النعمة ينفتح لنا دومًا من خلال سِرّ التوبة؟ هل نؤمن بأنّه عندما نُقرّ بخطايانا أمام الله والكاهن تُغفر لنا خطيئتنا وهذا ما يجلب لنا الفرح والسّلام؟

 

 3. "إن كانت خاطاياكم كالقرمز فإنّي أبيّضها كالثلج" هل نؤمن بأنّ الله يستطيع أن يبدّل حياتنا عندما نستسلم له؟ وهل نؤمن بأنّ أعظم لحظة في تاريخنا الشخصيّ هي عندما نشعر بأنّ شيئاً في داخلنا قد تبدّل وهذا ما يبدّل نظرتنا إلى الواقع؟

 

 

 

صلاة:

نعترف لك، أيّها الرّبّ يسوع، بشجاعة وإيمان تلك "المرأة الخاطئة"، فنصلّي أمامك بإرث الخطيئة المتبقّي لنا والذي لم نعد نملك سواه وهو لم يستطع أن يملأ فراغ نفوسنا. نقيم عهدنا معك ونعدك دومًا بأنّنا سوف نتوب إليك ونترك طريق المعصية، لكنّنا غالبًا ما نقع في حالة التردّد فلا نفي بوعدنا لك. نذهب إليك لكي لا نعود نخطأ ثمّ نعود إلى حيث كنّا وتجرح الخطيئة فضائلنا.

 

نُحبَط ونقرّ بأنّنا لم تعد تجدينا المحاولة نفعًا. لذلك غالبًا ما ينتابنا شعور بعيد عن إرادتك حيث نريد أن ننقطع عنك لكي نصلح سيرتنا، ولكن "إلى مَن نذهب وكلام الحياة الأبديّة عندك؟" دعنا نؤمن بأنّ غفرانك يخلقنا دومًا من جديد وينتشلنا من ظلمة الخطيئة واجعلنا ندرك أنّنا ببعدنا عنك نخسر كلّ شيء وعندما نعود إليك نستعيد كلّ شيء لأنّك أنت وحدك مصدرنا وغايتنا. لك المجد إلى الأبد. آمين.

 

 

 

الأب نبيل حبشي ر.م.م.