الأحد الحادي عشر من زمن العنصرة «الإنجيل

 

 

 

إنجيل لوقا (19/ 1-10)

 

 

 توبة زكّا العشّار

 

 

دَخَلَ يَسُوعُ أَرِيْحا وَبَدأَ يَجْتَازُها،

 

وإِذَا رَجُلٌ ٱسْمُهُ زَكَّا، كانَ رَئِيسًا لِلْعَشَّارِينَ وَغَنِيًّا.

 

وكَانَ يَسْعَى لِيَرَى مَنْ هُوَ يَسُوع، فَلَمْ يَقْدِرْ بِسَبَبِ الجَمْعِ لأَنَّهُ كانَ قَصِيرَ القَامَة.

 

فَتَقَدَّمَ مُسْرِعًا وَتَسَلَّقَ جُمَّيْزَةً لِكَي يَرَاه، لأَنَّ يَسُوعَ كانَ مُزْمِعًا أَنْ يَمُرَّ بِهَا.

 

وَلَمَّا وَصَلَ يَسُوعُ إِلَى المَكَان، رَفَعَ نَظَرَهُ إِلَيْهِ وقَالَ لَهُ: «يَا زَكَّا، أَسْرِعْ وٱنْزِلْ، فَعَلَيَّ أَنْ أُقِيمَ اليَومَ في بَيْتِكَ».

 

فَأَسْرَعَ وَنَزَلَ وٱسْتَقْبَلَهُ في بَيْتِهِ مَسْرُورًا.

 

وَرَأَى الجَمِيعُ ذلِكَ فَأَخَذُوا يَتَذَمَّرُونَ قَائِلين: «دَخَلَ لِيَبِيتَ عِنْدَ رَجُلٍ خَاطِئ».

 

أَمَّا زَكَّا فَوَقَفَ وَقَالَ لِلرَّبّ: «يَا رَبّ، هَا أَنَا أُعْطِي نِصْفَ مُقْتَنَياتِي لِلْفُقَرَاء، وَإنْ كُنْتُ قَدْ ظَلَمْتُ أَحَدًا

 

بِشَيء، فَإِنِّي أَرُدُّ لَهُ أَرْبَعَةَ أَضْعَاف».

 

فقَالَ لَهُ يَسُوع: «أَليَومَ صَارَ الخَلاصُ لِهذَا البَيْت، لأَنَّ هذَا الرَّجُلَ هُوَ أَيْضًا ٱبْنٌ لإِبْرَاهِيم.

 

فإِنَّ ٱبْنَ الإِنْسَانِ جَاءَ لِيَبْحَثَ عَنِ الضَّائِعِ وَيُخَلِّصَهُ».

 

 

 

تأمّل: (لمزيد من الإستنارة الروحيّة قراءته بتمهّل طوال الأسبوع)

 

 

غالبًا ما تأخذ التوبة مساحة كبيرة في لاهوت الكتاب المقدَّس في عهديه القديم والجديد. فإنّها تشكّل جوهر الحياة الرّوحيّة ونقطة إنطلاق البشارة السارّة في العهد الجديد: "توبوا فقد اقترب ملكوت السّماوات". بهذه الكلمات عينها بدأ كلٌّ مِن يوحنّا المعمدان ويسوع بشارتهما الخلاصيّة.

 

إنّ حدث توبة زكّا يبرز رسالة يسوع الخلاصيّة هو الذي جاء يبحث عن الضائع ليخلّصه. لذا يتفرّد الإنجيليّ لوقا بذكر توبة زكّا العشاّر حيث يقدّم لنا من خلال هذا النصّ تعليمًا مُحدّدًا عن رحمة الله وغفرانه وعن مكانة الخطأة في تدبيره الخلاصيّ. فما صنعه يسوع لزكّا بات يشكّل تعليمًا ملموسًا يُدركه جميع الوضعاء والحكماء والخطأة والتائبون وكلّ إنسان أراد أن يفتح قلبه لنعمة الله.

 

"فإنّ ابن الإنسان جاء يبحث عن الضائع ويخلّصه"

 

يندرج حدث توبة زكّا العشّار الذي يتفرّد بذكره الإنجيليّ لوقا في نهاية حياة يسوع العلنيّة عندما صعد إلى أورشليم مع تلاميذه الإثنيّ عشر. فأريحا هي المحطة الأخيرة قبل أورشليم حيث وصل إليها يسوع فهي باب الأرض المقدّسة. تحتلّ أريحا مكانة هامّة في صفحات الكتاب المقدّس وفي تاريخ الشّعب اليهوديّ حيث يعود عمرها إلى سبعة آلاف سنة.

 

تميّزت هذه المدينة بانحدارها عن سطح البحر. فهي ترمز في المعتقد اليهوديّ إلى مثوى الأموات أي "الشيول" حيث نزل يسوع وأخرج منه كلّ النفوس التي كانت تنتظر الخلاص. وهذا ما يبدو ظاهرًا في أيقونة المسيح عندما نراه يمسك بيده كلّ من آدم وحوّاء لكي يخرجهما من هذا المكان المُظلم ليشاهدا نور الخلاص.

 

هذه المدينة غالبًا ما أتى على ذِكرها يسوع ودخل إليها. نراه يأتي على ذكرها عندما تكلّم عن السَّامري الصَّالح الذي كان نازلاً إلى أريحا ووقع في أيديّ اللصوص، وتكلّم عليها أيضًا عندما شفى أعمى ابن طيما الذي كان جالسًا يتسوّل على قارعة الطريق في أريحا. لذلك فهو يدخل أريحا ويلتقي زكّا رئيس العشّارين الذي تسلّق الجميزة ليرى من هو يسوع ويحلّ ضيفـًا في بيته برغم تذمر القائلين: "دخل ليبيت عند رجل خاطئ". ففي هذه المدينة نحن أمام مناخ من الشّفاء والإرتداد وكلُّ هذا يحدث بالقرب من أريحا وفي داخلها.

 

إنّ هذا الشّفاء وهذا الإرتداد الظاهر يعبِّران عن عمل الله وإرادته التي أتقنها يسوع وهو رأس الأنبياء وعن مكانة الخطأة في تدبيره الخلاصيّ. ينتمي زكّا العشار ومعنى اسمه "الطاهر أي النقيّ" إلى النظام الضرائبيّ الرُّومانيّ حيث كان المحتلّ يبيع هذه الوظيفة بالمزاد العلنيّ، فينالها مَن كان يدفع المبلغ الأكبر. والمال الذي يقدّمه يمثل مجمل الضريبة التي يُلزم نفسه بدفعها للصندوق العامّ.

 

لهذا وجب على زكّا بأن يكون غنيًا كبيرًا ليقوم بواجباته تجاه الدولة. وإن لم يجمع المال الذي وعد به يتوجّب عليه أن يدفع للسّلطة مِن ماله الخاص. مثل هذا النظام كان يؤمّن المداخيل للدولة بدون أن تدفع أجرًا للموظّفين. ولكن العشّارين كانوا يبحثون عن وسائل تساعدهم على دفع المال الذي تعهَّدوا به وعلى تأمين الرِّبح الوفير لهم. فكانوا يظلمون الناس ولا سيَّما الفقراء والضعفاء، وهذا ما جعل النّاس يكرهونهم ويحكمون عليهم.

 

كان زكّا رئيس العشّارين في أريحا التي كانت تخضع للحكم الرُّوماني كسائر المدن اليهوديَّة. وكان من هؤلاء الذين ذهبوا إلى يوحنّا المعمدان يسألونه عن شرعيّة وظيفتهم فجاءهم الجواب: "لا تجمعوا من الضرائب أكثر ممّا فُرض عليكم" (لو3/ 13). كان يوحنّا المعمدان يعرف  الوسائل التي يستعملونها من غشّ وعنف وحيلة. ولهذا ختم الإنجيليّ لوقا كلامه عن يوحنا المعمدان فقال: "فجميع الذين سمعوا يوحنّا حتى العشّارون أنفسهم أقرّوا بصدق الله فقبلوا معموديّة يوحنّا" (لو29/7). لهذا كان العشّارون يُشبّهون بخطأة مُعلنين يبتعد عنهم الأتقياء. لهذا مُنع العشّارون من حقّ الشهادة في المحمكة، كما شكّ الناس في إمكانية رجوعهم إلى الله بالتوبة.

 

يذكر الإنجيليّ لوقا هاتين الفئتين معًا: "وكان العشّارون والخاطئون يدنون من يسوع ليسمعوه" (لو1/15). ونرى القدِّيس متّى يجمعهم مع الزناة ليبرز رحمة الله التي حملها يسوع إلى جميع البشر.

 

فقال: "العشّارون والزناة يسبقونكم إلى ملكوت الله" (متى 17/18). هكذا بدا العشّارون كالمحرومين فانعزلوا على ذواتهم. وهنا نُدرك إتّهام اليهود الأتقياء ليسوع بأنّه يتعامل مع هذه الفئة الخاطئة في إسرائيل. حيث بدأ تصرّفه يشكّل خطرًا على المجتمع الذي يرفض حتى التحيّة لهؤلاء الخطأة، فكيف لا يرفض الأكل معهم؟.

 

وحاول زكّا أن يرى يسوع ولكنّه كان قصير القامة، فما تمكّن من أن يراه لكثرة الزّحام. فأسرع إلى جمّيزة وتسلّقها ليراه: "لأنّ يسوع كان مزمعًا أن يمرّ بها". إنّ بادرة هذا الغنيّ الذي يملك كلّ المال والسُّلطة وهو رئيس العشّارين يتسلّق الجمّيزة ليرى من هو يسوع، استحقَّ مِن يسوع بادرة أهمّ: "عليّ أن أقيم اليوم في بيتك"، بالرّغم من تذمّر القائلين: "دخل ليبيت عند رجل خاطئ".

 

كان وقع هذه البادرة عميقاً في قلب هذا الخاطئ العشّار الذي جاء يبحث عن جوهر وجوده كما فعل آدم بعد أن وقع بفخ الخطيئة الأصليّة: "فنادى الربّ الإله الإنسان وقال له: "أين أنت؟ قال: "إني سمعت وقع خُطاك في الجنّة فخفت لأني عريان فاختبأت" (تك 9/3-10). لقد جاء زكّا يبحث عن جوهر وجوده حيث الخطيئة هي فقدان معنى الوجود وإنّ هذا الوجود لا يُستردّ إلاّ بفعل عطيّة النعمة والتوبة.

 

يقول القدِّيس أمبروسيوس في إحدى عظاته عن زكّا: "وهكذا رأى يسوع زكّا فوقه فارتفاع إيمانه جعله يبرز وسط أثمار أعمال جديدة كما على قمّة شجرة مثمرة. لذلك زكّا على الجمّيزة هو ثمرة جديدة في فصل جديد. وفيه يتحقـَّـق النص القائل: "أعطت التينة أولى ثمارها (نش 13/2). فالمسيح جاء لتلد الأشجار أناساً لا أثماراً". ثمّ يقول أيضاً: "إنّ زكّا أحسن صنيعاً حين صعد إلى الشّجرة بحيث استطاع أن يحمل ثمرة الشّريعة بعد أن أُنتزع من الزيتونة البريّة الأصل، وطعّم على غير طبعه في زيتونة صالحة" (روم 24/11). فالقدِّيس أمبروسيوس رأى في زكّا رمز الأمم الوثنيّة. ولكنّه لم يقل إنّ زكّا كان وثنيًا، منطلقاً من كلمة يسوع: "هذا الرَّجل هو أيضاً من أبناء إبراهيم".

 

فالإنسان الذي تغربّ عن الوعد نَعِم َ بخيرات هذا الوعد بصورة مجانيّة. فالحركة التي بها ترك زكّا مدينة أريحا ليصعد الجميزة، جعلت منه كائنًا يستعيد حيويته الرُّوحيّة بفعل النعمة التي تأخذ المبادرة في كلِّ دعوة إلى الرّبّ. انّ زكّا قصير القامة ولا يستطيع أن يرى يسوع. لهذا كان عليه أن يصعد إلى الجميزة. إنّه يرغب برؤية يسوع رغبة مُلحّة تجعله يركض مثل أعمى أريحا حيث يمرّ يسوع. إنّ موقف هذا الخاطئ يُشير إلى رغبة شديدة بأنّه يريد أن يحصل على الغفران ويُبصر نور الخلاص مهما كانت التحديات والمصاعب كبيرة. أمام هذا التصميم إتّخذ يسوع المبادرة ليجعل منها مناسبة لمنح نعمته.

 

لقد طلب يسوع من المرأة السّامرية الماء ليكشف لها أنّه يمتلك في ذاته ماءً حيًّا يُطفئ كلّ بحث وعطش وجوع ويحوّل كلّ كائن إلى ينبوع ماء يجري للحياة الأبديّة. فعندما نالت هذه الخاطئة الغفران الذي منحها إيّاه يسوع امتدح على عيون جميع الناس صفات قلبها، حيث يحكم النّاس على ما يُرى وأمّا الله فيحكم على ما لا يستطيع الإنسان بأن يراه. لقد ردّد بولس الرّسول برسالته إلى أهل أفسس: "جاء المسيح وبشَّركم بالسَّلام أنتم الذين كنتم أباعد، وبشّر بالسّلام الذين كانوا أقارب" (أفس 17/2). وهذا ما يطبّق على المسيح وكنيسته في نبوءة أشعيا (1/56-8). حيث تنبأ أشعيا بيوم يأتي فيه الغُرباء وهم الوثنيون فينضمّون إلى القريبين أي إلى شعب الله فيعبدون الله بالرّوح والحقّ في هيكله المقدّس كما أعلن يسوع للسّامرية.

 

 لذلك بات يشكّل نص زكّا العشار الذروة في الحصول على الخلاص حيث ظهرت أسمى تجليّات الرّحمة الإلهيّة التي تبقى فوق إدراك الإنسان وخارج حدود الإعتبارات البشريّة. عندما دخل يسوع بيت زكّا وصل الشكّ إلى الذروة ولم يتذمّر فقط بعض الفريسيين المتزمتين، بل تشكّك الجمع كلّه من موقف يسوع. لم يقرّر يسوع بأن يأكل في بيت العشّار، بل أراد أن يُقيم عنده. فكان الإتّهام بأنّ يسوع يشارك الخطأة في الطعام.

 

فعندما استقبل زكّا يسوع أعلن أمام الجميع إعلانًا له بُعدان: أوّلاً عبّر زكّا عن إرتداد قلبه إرتدادًا صادقـًا، وثانيـًّا أكّد أمام الجميع أنّ يسوع لم يُخطئ حين اختار بيت رجل لم يكن قلبه شرّيرًا كما يظنّ الناس، فمهما كانت جسامة الخطيئة فهي لا تستطيع أن تبدّل كيان الإنسان، وهذا ما بدا ظاهرًا في مثل الإبن الضّال الذي رجع إلى بيت أبيه "فوجده سالمًا".

 

 لقد دلّ زكّا على مرأى من كلّ الحاضرين على ما فعلت به نظرة الحبّ الخارقة من هذا النبيّ الذي عبر ذات يوم يبحث عن ذلك الضّال في أريحا. فنظرة يسوع تنفذ إلى أعماق القلوب وتفجّر النّور الإلهيّ الذي يُقيم فيها. لقد اعترف زكّا أنّه قد ظلم النّاس عندما كان يُمارس مهنته وإنّه يأسف على كلِّ ما فعله وأراد أن يطبّق ما نصّت عليه الشريعة: "إذا سرق أحدٌ ثورًا أو شاة فليعوّض بدل الثور خمسة وبدل الشّاة أربعًا" (خر 37/21). وهذا ما ذكره داود أمام يوناتان: "يردّ عوض الرخلة أربعاً لأنّه فعل هذا الشرّ ومنع قلبه عن الشّفقة" (2صم 6/12). لقد أدرك زكّا أنّ المحبَّة وحدها تمحو آثار الظلم والغفران وحده يخلق كيان الإنسان. فحين التفت يسوع إلى زكّا وجّه كلامه إلى الحاضرين. فصالح زكّا مع جماعة إسرائيل وردّ له كلّ امتيازاته وكرامته وجعله من جديد وارثًا للموعد: "لأنَّ هذا الرَّجل هو أيضًا ابنٌ لإبراهيم".

 

 

"معنى التوبة وعظمتها التي تستمرّ مدى الحياة"

 

لكي نفهم المعنى العميق للتوبة لا بدّ لنا من العودة إلى الأصل اليونانيّ للكلمة وهو "ميتانويا" الذي يعني حرفيًا "تغيير الذات" أي أنَّ التوبة ليست اليأس والحزن وليست فقط النّدم على الماضي، بل التحوّل الجذري كما تحوّل زكّا واكتساب طريقة جديدة لرؤية الله والآخر وأنفسنا. فالتوبة لا تتعلّق بكميّة الخطايا أو بنوعيّتها، بل هي حالة تعبّر عن داخل الإنسان في علاقته مع الله واكتشاف مدى رحمته التي تتخطّى كلّ أنواع الضعف وعدد الخطايا.

 

إنّ الروحانيِّين لا يعيشون مُطلقـًا حالة حزن ويأس خاصّة لخطاياهم الفرديّة، إنّما يحزنون متأسّفين على ضياع الوقت والأفعال الماضية التي لم تؤدِّ إلى اكتشاف رحمة الله اللامحدودة. يقول القدِّيس إسحاق السّرياني: "إنّ التوبة هي عطيّة من الله وترتبط بشكل مُباشر بثلاث درجات في الحياة الروحيّة أوّلاً: يجب أن نطلبها في كلِّ صلاة للحصول عليها. ثانياً: الإنتباه إلى قساوة القلب. ثالثاً: طلب الغفران الداخلي حيث تصبح التوبة توبة القلب الذي يستطيع أن يتحكّم بميوله وليس توبة حياة".

 

 تظهر توبة زكّا العشّار وغفران يسوع له حقيقة وجه الله الكلّي المحبّة والرَّحمة والمغفرة التي تظلّ محبّته لنا فوق كلِّ الشّرائع الخُلُقيّة والأحكام البشريّة. هو الإله الذي ما جاء إلّا لكي يبحث عن الهالك ويخلّصه في ذروة ضعفه وخطيئته وتردّده وفي جدّة بحثه عن حقيقة الله الذي وحده يستطيع بأن يعطي معنىً لبحث الإنسان ووجوده.

 

فزكّا هو رئيس العشّارين في أريحا وهو على قدر كبير من المال والسّلطة وهما عاملان أساسيّان في حياة الإنسان واللذين باتا يشكّلان محطة إهتمام الكثير من الناس في مجتمعنا اليوم. إلاّ أنّ زكّا لم يكن يرتضي بكلِّ ما كان لديه من مال وسلطة، بل أراد أن يبحث عمّا يستطيع أن يسدّ جوعه ويروي ظمأه، فكان يجنح إلى ما كان يردّده يسوع: "ليس بكثرة المال سعادة".

 

إنّ دخول يسوع إلى أريحا لم يكن على سبيل الصدفة بل: "دخل يسوع أريحا وبدأ يجتازها". لقد ردّدت القدِّيسة تريزيا الطفل يسوع في هذا الصدّد: "أن الله يتدخّل في أبسط أمور تاريخنا". لذلك جاء يسوع يبحث عن زكّا العشّار كما بحث عن المرأة السَّامرية: "وكان عليه أن يمرّ بالسَّامرة" (يو 4/4). فالمرأة السّامرية كان لها خمسة أزواج، لكنّها لم تجد السعادة. لقد أرادت أن تبحث عن الماء الحيّ الذي وحده يستطيع أن يُروي ظمأها ويتفجّر فيها حياة أبديّة.

 

لقد جاء زكّا لكي يرى من هو يسوع لكنّه: "لم يقدر بسبب الجمع لأنّه كان قصير القامة". كان زكّا يعاني من مشكلة داخليّة ترتبط بجسده ومشكلة خارجيّة هي ازدحام الجموع. لذلك لم يتمكّن بسبب هاتين المُعضلتين بأن يرى يسوع: "فتقدّم مُسرعًا وتسلّق جمّيزة لكي يراه". لقد تخطّى زكّا بقوَّة إرادته وإيمانه هذين العاملين متمّمًا ما قاله يسوع: "إنّ ملكوت الله يُغصب والغصابون يختطفونه".

 

فهناك أمور داخليّة تنبع من ذواتنا وغالبًا ما تحجب رؤيتنا عن معرفة الله وحقيقة إيماننا، كالكبرياء والأنانيّة والزنى وكلّ ما يرتبط بجسدنا. وهناك أمور خارجيّة يسوّقها لنا دوما روح العالم الذي نحن نعيش فيه، كالغنى والكراهيّة والهموم والملذات الدنيويّة.

 

لقد أشار يسوع إلى كلّ هذا في مثل الزارع قائلاً: "والذي وقع في الشّوك يمثّل أولئك الذين يسمعون، فيكون لهم من الهموم والغنى وملذات الحياة الدنيا ما يخنقهم في الطريق فلا يُدرك لهم ثمر" (لو 14/8). فلقاء مع يسوع ليس دومًا من الأمور السّهلة على الإطلاق وهذا ما يبدو لنا ظاهرًا في صفحات العهد الجديد وهذا ما نشهده دومًا في مسيرة حياتنا اليوميّة نحو الله وهذا ما يحوّل بحثنا عن الإلتزام بفهم حقيقة وعيش حياتنا المسيحيّة.

 

إنّ إبن طيما الأعمى الذي كان جالسًا يتسوّل على قارعة الطريق في أريحا، عندما أراد أن يتقدّم إلى يسوع لكي يحصل على الشّفاء انتهره الجمع الكثير لكي يسكت إلاّ أنه اشتدّ صياحاً: "فأخذ يصيح فيقول: "رُحماك يا يسوع ابن داود، فانتهره الذين يسيرون في المقدّمة ليسكت. فصاح أشدّ الصياح: رُحماك يا ابن داود" (لو 38/18-39).

 

والمرأة المنزوفة التي لم تستطع الوصول إلى يسوع بسبب الجمع الغفير لمست طرف ثوبه "فلمّا سمعت بأخبار يسوع، جاءت بين الجمع من خلف ولمست رداءه" (مر 27/5). والمرأة السَّامريَّة في بداية لقائها لم تكن تستطيع التكلّم مع يسوع على البئر بسبب تلك المحرّمات التي كانت قد حدّدتها الشّريعة اليهوديّة: "كيف تسألني أن أسقيك وأنت يهوديّ وأنا امرأة سامريّة؟ لأنّ اليهود لا يخالطون السَّامريِّين" (يو 9/4).

 

والرّجال الأربعة الذي كانوا يحملون المُقعد: "فلم يستطيعوا الوصول به إليه لكثرة الزّحام. فنبشوا عن السقف فوق المكان الذي هو فيه، ثم دلّوا الفراش الذي كان عليه المُقعد" (مر 3/2-4). فالعالم الذي نعيش فيه اليوم يقف دومًا بيننا وبين حقيقة الله ويصدّنا دومًا عن إدراك معرفته بشتّى الأساليب والخِدع. هذا ما يحيكه لنا روح الشرّ الذي يقف في وجه كلّ من أراد أن يعبر من الظلمة إلى النّور ويكون حجر عثرة في طريق كلّ من أراد البحث عن حقيقة الله في هذا الوجود.

 

فالشرّير يقف دومًا في وجه كلِّ مؤمن يريد أن يداوم على الصَّلاة وخاصَّة عندما يرغب بالتقرّب من ممارسة سرّي التوبة والإفخارستيّا اللذين يستطيع أن يتّحد من خلالهما بحقيقة يسوع الخلاصيّة وهما يشكّلان جوهر الحياة الروحيّة.

 

فوراء عدم رغبتنا دائمًا بمعرفةً خطايانا والعودة إلى الله الغفور، هناك الخوف من التغيّير والتمسّك بالوضع الراهن الذي نحن عليه. هذا ما يحاول أن يبعثه روح الشرّ في عقولنا ونفوسنا بحيث يُوهمنا دوما بأننا لا نستطيع القيام بتحقيق هذا التغيير الذي يشكّل مبدأ الدّعوة الإنجيليّة وجوهر الحياة الرّوحيّة والمسيحيّة.

 

لقد كان يردّد في هذا الصدّد القدِّيس كيرلّس الأورشليميّ: "وكما أنّ الخشب الجاف، إذا ارتوى بالماء أزهر كذلك النفس الخاطئة، بنعمة التوبة التي يمنحها الرّوح القدس، تنبت فروع بِرّ".

 

يحدث التغيير في حياتنا كما حدث في حياة زكّا عندما نشعر بأنّ الله يقبلنا بدون أي شروط، و يبقى غفرانه لنا فوق كلّ الإعتبارات البشريّة. أنّه الإله الذي يقبلنا كما نحن ويقبلنا كما قبِلَ يسوع زكّا، لا كالآخرين الذين نظروا إليه باحتقار وهذا ما نفعله نحن كثيرًا من الأحيان بإدانتنا للآخرين. لذا يقبلني يسوع بالطريقة نفسها، وكلّ ما عليّ أن أفعله هو أن أقبل هذا القبول.

 

يقول القدِّيس أمبروسيوس: "إنّه ليس من الخطأ أن يكون الإنسان غنيًا. الخطأ في أن لا يعرف كيف يستعمل الغني غناه. فالغنى الذي هو عائق وفخّ للأشرار، يصبح لدى الأخيار وسيلة للفضلية".

 

نعم، إنّ المسيح اختار زكّا الغنيّ، ولكن اختاره حين أعطى الفقراء نصف أمواله، وردّ أربعة أضعاف ما سلبه بالحيلة. فالواحد لا يكفي من دون الآخر، ولا قيمة للسّخاء إذا لبث الظلم حاضراً، ولا سيَّما وإننا نطلب لا أسلاباً بل عطايا. حين فعل زكّا هذا، نال جزاءً أوفر من أعماله السخيّة. لذا فالفقر ليس خلاصاً والغنى ليس شراً، بل يُصبح الغنى شرّا عندما لا نعطِ منه ما يسد حاجة الفقراء.

 

فيما كان أحد القدِّيسين ممدّداً على فراش الموت رآه تلاميذه الذين كانوا محيطين به يخاطب أحدًا ما فسألوه: "مع من تتكلّم يا أبانا؟" أجابهم: "ها هي الملائكة أتت لتحملني وإنّني أرجوها أن تدعني أتوب قليلاً بعد". فقال له الشيوخ: "لا حاجة إلى أن تتوب يا أبانا" فأجابهم: "في الحقيقة لست متأكّداً حتى من أنّني بدأت أتوب". لذا نحن مدعوّون اليوم إلى أن نسلك طريق التوبة التي تبقى الطريق الأقرب إلى الله وهي ليست في متناول إمكانياتنا البشريّة. فبالرّغم من كلِّ التحديّات الكبيرة وما نصادفه من نزوات داخليّة ومن الضعف الذي يتربّص بنا دومًا وبالرّغم من كلِّ الحروب التي تأتينا من الخارج ومن الداخل، نحن مدعوّون أن نتأمل دومًا بما قاله القدِّيس إسحاق السّرياني: "إن هذه الحياة أعطيت لكم من أجل التوبة فلا تبدّدوها في مساعٍ باطلة".

 

 

 

 

أسئلة للتأمل والتفكير:

 

1- هل نعرف بأنّ التوبة هي نعمة مجّانية تُعطى لنا من الله دون أي إستحقاق منّا وأنّها مسيرة حياة لا تنتهي بل تستمّر حتى الممات؟ 

 

هل نعي بأن جوهر التوبة الحقيقـيّة عندما نؤمن بأنّ الله يقبلنا كما نحن؟ وهل ندرك بأنّه لا شيء يعبّر عن حقيقة التوبة سوى موهبة الدموع التي تعاش بقوّة خاصّة في سّر الإعتراف؟

 

2- ما هي نزواتنا الداخليّة ومشاكلنا الخارجيّة التي تصدّنا عن الإتّحاد بعالم الله؟ هل نعي بأنّ المال والسّلطة لا يستطيعان أن يشبعا جوع الإنسان وهذا ما اختبره زكّا الذي كان يمتلك المال والسّلطة لكنّه كان يبحث عن حقيقة الله الذي وحده استطاع أن يروي ظمأه وظمأ المرأة السّامريّة؟

 

3- ماذا يعني لنا اليوم هذا القول: "فإنّ ابن الإنسان جاء يبحث عن الضّائع ويخلّصه"؟ هل نؤمن بأنّ الله الكثير الرّحمة والمحبّة والمغفرة هو يبحث دومًا عنّا عندما نكون في ذروة خطيئتنا وضعفنا وفشلنا وينتشلنا عندما نشعر بإنّنا فقدنا السّيطرة على ذواتنا إذا أردنا حقاً أن ننفتح على تدخلّه في حياتنا كما فعل زكّا العشّار؟

 

 

صلاة:

 

نصلّي إليك أيّها الحبّ والعطاء الذي جئت تبحث عن وجودنا وضياعنا كما بحثت عن زكّا في أزقـّة خطيئتنا وحضيض ضعفنا لتردّ ما أتلفته الخطيئة في نفوسنا ورغابتنا. لا تدعنا نفرح بغنى الخطيئة الذي يقودنا دومًا إلى تقويض ما نسجته النعمة في أعماق نفوسنا وضمائرنا. إنتزع من قلوبنا أوهام المعصية التي تتربّص في داخلنا وحصّن حياتنا برصيد نعمة التبدّل والغفران. إجعل ثمار التوبة تتساقط دومًا في كلّ عمل من أعمالنا كما سقط زكّا من علوّ جميزته. لا تدعنا ننقطع عنك عندما تزدحم كثرة خطايانا في طريقنا إليك، بل اجعلنا نتسلّق سلّم التوبة كما زكّا ونتيقـَّظ لعاهاتنا الداخليّة والتجارب الخارجيّة التي تصدّنا من أن نشاهد ملامح وجهك السنيّ. لك المجد إلى الأبد. آمين.

 

 

 

الأب نبيل حبشي ر.م.م.