من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه (يو 6/ 56)

ألبوم الصور

من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه (يو 6/ 56)

 

 

 

في اليوم الأخير من السينودس، سيُطوّب بولس السادس الذي لا بد من القول أنه هو من أسسه. عودة مع الأب فرنسوا ماري ليتيل، العضو في رهبنة الكرمليين الحفاة، إلى حياة وأعمال هذا البابا صاحب الإيمان والفكر النيّرين.

انتُقد بولس السادس بشدة خلال حياته، وتم نسيانه بسرعة بعد موته. لكن هذا البابا الذي اضطلع بمهمة صعبة قضت بإرشاده المجمع الفاتيكاني الثاني الذي كان يوحنا الثالث والعشرون افتتحه، أعطى الكنيسة أُسس مظهرها الحالي، ووضع بين أيدي خلفائه جميع أدوات الحكم الراهن. كما ندين له بخاصة بإنشاء سينودس الأساقفة. بمناسبة تطويبه في 19 أكتوبر الجاري، يحدثنا الأب فرنسوا ماري ليتيل، المتخصص في لاهوت القديسين والمستشار في دعاوى القديسين، عن هذا المفكر صاحب الفضائل البطولية، منذ ولادته في بريشيا في شمال إيطاليا في 26 سبتمبر 1897 وحتى موته في كاستل غاندولفو في 6 أغسطس 1978.

حدّثونا عن طفولة بولس السادس وعائلته. كيف أعدّتا البابا المستقبلي والطوباوي قريباً؟
  نال جان باتيست مونتيني سر العماد في 30 سبتمبر 1897، يوم وفاة القديسة تريزيا التي أحبها حباً استثنائياً لهذا السبب، والتي شغلت مكاناً مهماً في حياته. كان والداه، المحامي والسياسي جورج مونتيني وزوجته جوديث، يشكلان جزءاً من هؤلاء القديسين العلمانيين الذين أزهروا في إيطاليا، في زمن عدائية شديدة للإكليروس. بفضلهما، ترعرع بولس السادس في أجواء مسيحية رائعة ومنفتحة. ونقلت له أمه رابطها الخاص بفرنسا لشدة تعلقها بالثقافة الفرنسية.

هل يمكنكم أن تتكلموا باختصار عن هذا الرابط؟
كان يعرف بولس السادس اللغة والفكر الفرنسيين بشكل ممتاز. يجوز القول من دون تردد أنهما كانا مرجعه. حبه الكبير لفرنسا تجسّد في الصداقة العميقة مع رجال مثل جاك ماريتان أو جان غيتون.

كان بولس السادس ضعيفاً صحياً منذ ولادته. ما كانت تداعيات ذلك؟
لم يذهب إلى المدرسة كثيراً واضطرّ إلى العمل بنفسه. هكذا، أصبح قارئاً كبيراً. وفي هذا السياق المتسم بالهدوء والوحدة النسبية، سمع باكراً الدعوة إلى الكهنوت. فسيم كاهناً سنة 1920 وكان له من العمر 23 سنة.

أخبرونا عن سنواته في الإكليريكية. بمَ تميّزت؟
  كان الطوباوي موييز توفيني أستاذه. هذا التومائي المتحمس فتح له كون القديس توما الأكويني، وعلّمه التوجه مباشرة إلى المنابع. كان فكر القديس توما ثميناً بالنسبة له من أجل مساعدة الشباب الإيطاليين الكاثوليك على مقاومة إغراء الفاشية المتأثرة بإيديولوجية كانت. بولس السادس هو الأكثر تومائية بين بابوات الزمن الحديث.

منذ سيامته، أرسله أسقفه إلى روما لإكمال دراسته. هل كان هذا القرار جوهرياً؟
الأب ليتيل: أجل. هذا الكاهن الشاب المتميز بتقوى عميقة وذكاء كبير لوحظ واستُخدم من قبل وزارة الخارجية حيث علت مراتبه. سنة 1937، عُيّن نائباً في وزارة الخارجية، ولم يكن له من العمر آنذاك سوى أربعين عاماً. أمضى ساعات قرب وزير الخارجية، الكاردينال باتشيللي الذي أصبح البابا بيوس الثاني عشر بعد عامين. وكسب ثقته التامة. بقي المونسنيور مونتيني في الكوريا طوال ثلاثين سنة. وفي العام 1952، عُيّن مساعداً لأمين سر الدولة.

كيف استطاع أن يمارس خدمته الكهنوتية طوال تلك السنوات؟ 
  كُلّف بأداء خدمة مهمة تقضي بتقديم الإرشاد الروحي بخاصة للشباب الجامعيين (كان طوال سنوات عدة المساعد الوطني للشباب الجامعيين الإيطاليين). هكذا، أدى دوراً أساسياً في تنشئة الضمائر. وخلال الحرب، كان له دور كدبلوماسي ومحام عن اليهود، نظراً إلى أن بيوس الثاني عشر أمر الرهبنات بأن تخبئ هؤلاء. بعد الحرب، ولمسائل متعلقة بالسياسة الإيطالية الداخلية، تدهورت العلاقات بين الرجلين. فعينه بيوس الثاني عشر رئيس أساقفة على ميلانو (1954-1963) من دون منحه رتبة كاردينال. وكان ذلك أمراً لم يحصل من قبل.

ما كان أثر ذلك على تاريخ الكنيسة؟
  لو كان كاردينالاً، كان هو الذي سيُنتخب من دون شك للسدة البابوية بدلاً من يوحنا الثالث والعشرين (على الرغم من أن المونسنيور مونتيني لم يشارك في المجمع السري، إلا أن اسمه ذُكر مرتين على ما يبدو في أول اقتراع، راجع "حياة بولس السادس المتواضعة" للكاتب كريستوف هينينغ). بالتالي، لما كان افتتح المجمع أبداً. فقد كان طبعه حذراً وعاقلاً. كان يتوقع كل التشنجات المستقبلية.

 كيف كان كرئيس أساقفة علماً أنه لم يكن يوماً خوري أو حتى كاهن رعية؟
كان مهتماً بالبعيدين والأكثر عرضة للأخطار. هو المتحدر من عائلة بورجوازية من شمال إيطاليا فضّل العمّال. فاحتفل مراراً بالقداس في مصانع، وقال للكهنة ألا يترددوا في الذهاب لتبريك بيوت الشيوعيين! 

انتُخب في السدة البابوية في 21 يونيو 1963، يوم عيد القلب الأقدس. هل حصل ذلك صدفة؟
  يعكس هذا التاريخ حبّه الشديد ليسوع. كان بولس السادس يحب المسيح محبة زوجية، حسبما أشار العديد من الشهود. في ميلانو، عندما كان يُسأل: "ما هو الأهم بالنسبة إلى الكاهن؟". كان يجيب: "أن يعشق يسوع. كان يرى أن حياة الكنيسة مرتبطة تماماً بيسوع. وكان يحذر من كنيسة تتخذ من ذاتها مرجعية ومحوراً. فالمحور الوحيد كان المسيح بالنسبة له، وكانت الكنيسة تقع بينه وبين العالم.

 

افتتح يوحنا الثالث والعشرون المجمع (11 أكتوبر 1962) وأداره بولس السادس. كيف تصرف؟
  كان يصغي كثيراً ويصلي ويتخذ القرارات. قلما يهم إذا كان ذلك يصب باتجاه الأغلبية أم لا. هكذا، قاوم جميع الضغوطات. وهو الذي كان يعرّف عن نفسه كـ "نائب المسيح"، كان همه أن يقتدي به ويعمل بمشيئته.

 أعطونا مثلاً عن ذلك.
عندما قبّل قدمي المتروبوليت ميليتون في ساحة القديس بطرس، قيل له: أهنتم الكنيسة. فأجاب: اقتديت بالمسيح.

ماذا فعل خلال فترة المجمع؟
  اختار اسم بولس لأنه كان يريد أن يعطي زخماً تبشيرياً جديداً للكنيسة. لم ينتظر نهاية المجمع ليبدأ رحلاته إلى الخارج. فجعلته رحلة حجه إلى الأراضي المقدسة (يناير 1964، بين الدورتين الثانية والثالثة للمجمع) أول بابا يركب طائرة. وبعد أقل من عام (ديسمبر 1964)، توجه إلى الهند. وفي أكتوبر 1965، قبل اختتام المجمع (8 ديسمبر)، ذهب إلى منظمة الأمم المتحدة حيث ألقى كلمته المشهورة عن السلام. اتخذ بوادر معبّرة منها بيع تاجه المثلث لمصلحة الفقراء. كما نُشرت كافة الوثائق المجمعية في ظل حبريته. وهو الذي أعلن مريم أم الكنيسة. لقد وضع أسس الكنيسة بشكلها الراهن.

ماذا عن مؤلفاته خلال المجمع وبعده؟
  ندين له بعدة نصوص ليست معروفة كثيراً مع الأسف منها الرسالتين العامتين "كنيسته" و"تطوّر الشعوب"، والرسالة العامة "الحياة البشرية" المثيرة للجدل، والإرشاد الرسولي "الكرازة في العالم المعاصر" (الذي يذكره فرنسيس بكثرة في "فرح الإنجيل"). كان يكتب بنفسه نصوص مقابلات الأربعاء العامة (التي استهلها بنفسه). شخصياً، وكراهب شاب في تلك الحقبة، وجدت الكثير من الأنوار في هذه التعاليم.

هل شهد الأزمة التي تلت المجمع؟ وما كانت ردة فعله؟
  بفكره الشفاف والثاقب، أدرك على الفور مخاطر تفسير المجمع بشكل خاطئ واعتباره فصلاً بين الفترة "السابقة" للمجمع و"التالية" له. بدأت الأزمة خلال "سنة الإيمان" سنة 1968. فرد عليها بـ "قانون إيمان شعب الله" (30 يونيو 1968)، ومن ثم بعد نشر الرسالة العامة "الحياة البشرية" المثيرة للجدل (25 يوليو) بصلاته ليسوع: "يا رب، أنا أؤمن؛ أريد أن أؤمن بك" (30 أكتوبر). كانت السنوات العشر التالية الأكثر مأساوية في تاريخ الكنيسة. لكن بولس السادس عاشها بطريقة بطولية، بإيمان واثق وملتزم وفرح.

ما كانت أبرز معاناته خلال هذه السنوات القاتمة؟
  آلمته كثيراً ثورة المونسنيور لوفيفر. استقبله مراراً وأرسل له الكاردينال تياندوم من دون أي نتيجة. وقبل موته بأيام، طلب الصلاة من أجله. كذلك، شكل له اغتيال ألدو مورو (9 مايو 1978)، قبل شهرين من وفاته (9 أغسطس)، ضربة قاسية. ولكن أكثر ما أثر به هو ربما انشقاق آلاف الكهنة والمكرسين الذين تخلوا عن الكنيسة في تلك الفترة.

ما هو مفتاح حبريته؟
  مثل الزرع الجيد والزؤان. الزارع يزرع الحنطة بوفرة، لكن الشرير يأتي في الوقت عينه ليزرع الزؤان أي الفتنة. لقد زرع بولس السادس في الدموع والألم، وحصد خلفاؤه ثمار عمله.

ما كانت صفته الأساسية؟
كانت صفته الأساسية هي التواضع. كان بولس السادس يستخدم على الدوام ضمير المتكلم "نحن". لم يكن يستخدمه بصيغة الجمع لاتخاذ العظمة بل بمعنى كنسي. كان يتكلم باسم شعب الله. على غرار بندكتس السادس عشر، لم يكن يضع نفسه أبداً في مرتبة أعلى من الآخرين. وعلى مثال فرنسيس، كان يشعر بأنه خاطئ.

ما كانت نقطة ضعفه الرئيسية؟
كان يُجرَّب من ناحية الرجاء بخاصة خلال السنوات الفظيعة. هو الذي كان يشعر بأنه خاطئ، كان يخشى على مستوى خلاصه الأبدي. لكنه قاوم بفضل مثلث البؤس والرحمة والتسبيح. وقال أنه يستطيع تلخيص حياته الروحية بهذا المثلث.

موقع Aleteia