ماذا يعني لنا عيد جميع القدّيسين؟ «متفرقات

 

 

 

ماذا يعني لنا عيد جميع القدّيسين الذي نحتفل به اليوم؟ إنّه يعبّر عن حقيقة رائعة، فبينما نبحث عن مستقبلٍ مشرقٍ لنا ولأحبّائنا، تذكّرنا الكنيسة أنّ الله هو مستقبلنا الجميل وأنّنا إن آمنّا بمحبّته لنا سنتحوّل على صورته ونحيا حياته المغبوطة القدّوسة منذ الآن على الأرض وفي كلّ الظروف والأحوال وخصوصًا في أوقات "المحنة الشّديدة" التي نعيش. بيد أنّنا غالبًا ما نشكّك بهذه الحقيقة فننسى هويّتنا العميقة ونحيا كمن لا رجاء لهم! زِد على ذلك أنّه حينما نسمع كلمة قداسة نفكّر بشكلٍ تلقائيّ بأولئك القدّيسين العظماء الذين تتزيّن كنائسنا بصورهم وتكرّر على مسامعنا جهاداتهم وبطولاتهم أمثال مار يوسف وبولس وتقلا وأنطونيوس الكبير ومارون وريتا وشربل... وهكذا إذ نختبر صغارتنا أمام عظمتهم نعتقد بأنّهم كانوا من عالم آخر، وأنّنا صغار تافهون لدرجة أنّ القداسة هي فقط لأمثالهم ولبعض المختارين وحسب!

 

 

 

 

أمام هذه الشكوك والمقارنات يحسن بنا أن نعير أسماعنا لشابّة صغيرة تدعى تريز مارتان (التي غدت لاحقًا القدّيسة تريز الصغيرة، معلّمة الكنيسة) لتخبرنا كيف تنازل يسوع وشرح لها جمال النفوس كلّها العظيمة منها والوضيعة المغمورة على السّواء، فتقول: "لقد وضع يسوع أمام عيني كتاب الطبيعة، وفهمت أنّ جميع الأزهار التي خلقها الله جميلة، وأنّ سناء الوردة ونصوع الزنبق لا يزيلان أريج البنفسجة الصغيرة، ولا يسلبان الأقحوان بساطته الفتّانة... وفهمت أنّه لو رامت جميع الزهيرات أن تكون ورودًا، لفقدت الطبيعة حلّتها الربيعيّة، ولما كانت الحقول موشّاةً بالزهور.." وتتابع فتقول: "كذلك الأمر في عالم النفوس، الذي هو بستان يسوع. فلقد طاب لله أن يخلق القدّيسين العظماء، الذين يمكن تشبيههم بالزنابق والورود، ولكنّه خلق أيضًا قدّيسين أصاغر، عليهم أن يكتفوا بأن يكونوا أقاحي أو بنفسجات، مُعدّةً لتُقِرّ بها أنظار الله، حينما يُخفِضها حتى موطئ قدميه". لقد أدركت تريز أنّ عليها أن تكتفي بكونها من أولئك الأصاغر وحسب، وأنّ فرحها كلّه يكمن في التمتّع بنظرة الله المُحبّة لها وحسب وفي السّماح له بأن يخفضها ويميلها حسبما يشاء.

 

 

 

 

ولكن ما هي القداسة يا ترى وعلى مَا يقوم الكمال؟ لنتذكّر أوّلاً بأنّه لا قدّوس ولا كامل إلّا الله وحده! ولكن ما هي قداسته وما كماله؟  قداسة الله وكماله ليسا في الواقع إلا محبّته اللّامتناهيّة في تبادلها الثالوثيّ المغبوط، فالآب يحبّ الابن والابن يستقبل حبّه ويبادله الحبّ بالحبّ، والرّوح هو الذي يوحّدهما في حبّهما المتبادل. هكذا فالقداسة تعني أنّ الله لمحبّته لنا يُشركنا في حياته المغبوطة (كالأب الرّحيم الذي عانق ابنه الضالّ وقبّله طويلاً) وما علينا سوى أن نعود إليه وندعه يعانقنا بحبّه الغامر الرّحيم ويقبّلنا بروحه (لعلّكم اختبرتم ذلك!). يا للسرّ العجيب الغريب، حتّى أنّ يوحنّا الحبيب لم يستطع إلّا أن يدعونا لنتأمّل وننظر "أَيَّ مَحبَّةٍ خَصَّنا بِها الآب، لِنُدعَى أَبناءَ الله، وإِنَّنا نَحْنُ كذلِك" (هل نؤمن حقًا بذلك؟!).

 

 

 

على هذا النحو ندع الله يساعدنا كوننا أبناء له لنتحرّر من كلّ أنانيّة وانغلاق على الذات، فنعتنق حياة الابن الوحيد المغبوطة (تلك التي يلخصّها لنا يسوع في التطويبات الرائعة) هديةً نقبلها بامتنان وفرح وننمو فيها يومًا فيومًا. "أن تتقدّسوا"! هذه هي مشيئة الله، يشدّد الرّسول بولس.

 

 

 

 

ومن جديد نعود إلى تريز الصّغيرة تروي لنا على طريقتها خبرتها في هذا الشأن: "لقد أدركتُ أنّ الكمال يقوم على العمل بمشيئة الله، وعلى أن نكون ما يريدنا أن نكون بكلّ بساطة. كما فهمت أيضًا أنّ محبّة الربّ تتجلى في أبسط نفس لا تقاوم نعمته (محبّته) بشيء، كما في أسماهنّ درجةً على السّواء". فالأمر إذن لا يتعلّق بأهليّة الإنسان أو بدرجة الجهد والكدّ التي يبذلها، بل إنّما بمن يطيب لله وحسب (رو 9: 15-16). "وفي الحقيقة، إنّ من خصائص الحبّ أن يتّضع.

 

 

 

فلو كانت جميع النفوس على غرار نفوس الملافنة القدّيسين الذين أناروا الكنيسة بصفاء تعاليمهم، لما انحدر الله بكفاية، على ما يبدو، بمجيئه إلى قلبها؛ ولكنّه خلق الطفل الذي لا يُدرك شيئًا، ولا يمكنه سوى إطلاق صرخات ضعيفة؛ وخلق المتوحش المسكين، الذي لا دليل له سوى الشَّريعة الطبيعيّة، وهو بذلك يرتضي بأن يتنازل إلى حيث قلوبهم؛ تلك هي زهوره، زهور الحقول التي تفتُنه بساطتها... فبهذا التنازل العميق يُظهر الله عظمته اللّامتناهية؛ وكما تنير الشّمس على السّواء الأرز وكلّ زهرة صغيرة وكأنّها الوحيدة على الأرض، كذلك يهتمّ الربّ بكلّ نفس بصورة خاصّة، وكأنّه لا شبيه لها. وكما أنّ الفصول في الطبيعة قد رُتِّبت ترتيبًا يمكّن أوضع أقحوانة من التفتّح في اليوم المعيّن، فكذلك كلّ شيء يؤول إلى خير كلّ نفس".

 

 

 

لا بدّ لنا إذن من تصحيح اعتقادنا بأنّ القدّيسين المطوّبين هم كذلك بسبب النِعم الخارقة التي نالوها (التنبّؤ أو الرؤى أو التّعليم أو صنع العجائب...) أو أنّهم كذلك لأنّهم "كاملون" ولا شوائب فيهم! في الواقع، ليس هناك فرق جوهريّ بين القداسة "البطوليّة" والقداسة "العاديّة"؛ فالقدّيسون هم نساءٌ ورجالٌ يجتهدون من يوم ليوم وفي كلّ تفاصيل حياتهم "العاديّة" بأن يصيروا أمناء لمحبّة الله والقريب (هل يمكنكم أن تعدّدوا بعضهم من بين معارفكم؟!). "ثمّ إنّ هناك قدّيسين، وحتّى من بين الذين طوّبتهم الكنيسة، لهم طبع قاسٍ بعض الشيء تُجاه أنفسهم والآخرين" يلاحظ الكاردينال سالييج.

 

 

 

ويضيف عليه بروح الفكاهة راهبٌ سكوتيّ (ترابيست): "أحيانًا، ليس على الكنيسة أن تطوبّ القدّيسين أنفسهم، ولكن الذين يعيشون معهم"! (تعرفون بعضهم؟!) أمّا مطران نيويورك الشّهير فلتون شين وهو روحانيّ معاصر فيؤكّد ببساطة أن "إمرأة الله أو رجل الله لا يبذلان جهودًا ليعيشا القداسة أكثر من مديرٍ إعلاميّ، أو مصارع بطلٍ، أو امرأةٍ تسعى جهدها وكلّ طاقتها لتحافظ على شبابها ونحافتها. يكمن الفرق فقط في معنى القيَم التي تحرّك هؤلاء وأولئك". لا شكّ أنّ ذلك يعزّينا! فالقداسة إذن هي في متناول الجميع، وبمشاركتنا خبز الكلمة والخبز الإفخارستيّ نكوّن على نحوٍ مطلقٍ شعب الله المقدّس الذي إذ تجمعه المحبّة يشعّها في حياته اليوميّة ويظهر مجد الله الرّحيم الحيّ الذي يستحقّ السّجود والإكرام والقدرة.

 

 

 

 

 

الأب غسان السّهويّ اليسوعيّ.