عظة البطريرك الراعي - زيارة مريم لإليصابات «متفرقات

 

 

 "قامت مريم مسرعةً وذهبت إلى بيت أليصابات" (لو 29:1).

 

 

 

 

     1. ما إن قبلت مريم من الملاك إرادة الله عليها قائلةً: "ها أنا أمَة الربّ"، اقتبلت للحال في حشاها كلمة الله جنينًا، و"ذهبت مسرعة إلى مدينة يهوذا لتخدم اليصابات" الحامل بيوحنّا وهي في شهرها السادس، ومكثت عندها ثلاثة أشهر حتى مولد يوحنّا. فكانت أوّل معلنة لبشرى الإنجيل، وأوّل رسولة وخادمة، وأضحت للكنيسة الصورة والأيقونة، ولنا القدوة في الإيمان والخدمة.

 

 

 

 

     2. يسعدنا ان نحتفل معًا بهذه اللّيتورجيّا الإلهيّة، ويطيب لي أن أرحّب بكم جميعًا، وبخاصّة بالحزب اللّبناني الواعد، رئيسًا وأعضاء، ونثني على عمله في تحقيق عودة النازحين السوريين إلى وطنهم. لقد غبنا عنكم مدّة أسبوعين. في الأوّل، قمنا مع مطارنة كنيستنا المارونيّة بزيارة الأعتاب الرسوليّة. وهي روحيًّا، زيارة تقويّة إلى ضريحَي الرسولين بطرس وبولس، وتجديد الإيمان الأسقفي على ضريح القديس بطرس في قداس احتفالي مشترك. وكنسيًّا، هي لقاء مع قداسة البابا الذي أراده قداسته أخويًّا ومليئًا بالمحبّة والبساطة، طالبًا أن نطرح نحن عليه ما نشاء من أسئلة ومواضيع، وهو كان يجيب بمحبّته المعهودة. إنّنا نذكره اليوم بصلاتنا، كي يعضده الله في قيادة سفينة الكنيسة وسط الكثير من الرياح والعواصف المضادّة، حتى يبلغ بها إلى برّ الأمان.

 

 

 

 

وشاء قداسته، خلافًا للعادة، أن يستقبل قبل اللقاء، الوفد اللبناني المؤلف من نواب  من مختلف الطوائف ومن المؤسسة المارونية للانتشار. فوجّه إليهم كلمة محبّة وسلّم عليهم فردًا فردًا ومنحهم بركته الرسوليّة. وكنسيًّا أيضًا هي زيارة إلى الدوائر الرومانيّة للتعارف والتعاون.

 

 

 

     في الأسبوع الثاني، شاركنا بمؤتمر بطاركة الشرق الكاثوليك السادس والعشرين، الذي انعقد في بطريركيّة الكلدان في بغداد، بضيافة البطريرك الكردينال مار لويس روفائيل ساكو. وكان موضوعه: "الشباب علامة رجاء للشرق الأوسط". تخلّل المؤتمر لقاءٌ روحيّ جميل وواعد مع شبيبة بغداد من مختلف الكنائس، وزيارة إلى كلّ من رئيس الجمهوريّة الدكتور برهم صالح، ورئيس مجلس الوزراء السيّد عادل عبد المهدي. وهما منفتحان على قِيَم الديموقراطيّة ومقتضياتها.

 

 

 

 

 

3. وفيما ينطلق العراق بعمليّة إعادة إعمار ما تهدّم من مؤسّسات دستوريّة واقتصاد وأمن، وإعادة بناء ثقة المواطنين بوطنهم، ولاسيّما الشبيبة والمهجّرين والنازحين، بعد الخراب الشامل الذي بدأ منذ الحرب المفروضة على العراق في سنة 2003، نشعر نحن في لبنان بغصّة خانقة، إذ نجد الجماعة السياسيّة عندنا تعود بالبلاد إلى الوراء، وبمكوّناته إلى التفكّك، من دون أي وخز ضمير إنسانيّ ووطنيّ وأخلاقيّ. يكفي أن نفكّر بفشل الأفرقاء السياسيّين وعجزهم عن الاتّفاق على تأليف الحكومة الجديدة منذ ما يزيد على الستّة أشهر، وليس في الأفق بصيص أمل، طالما أنّ كلّ فريق ما زال أسير مطلبه وموقفه على حساب هذه المؤسّسة الدستوريّة، وعلى حساب الاقتصاد الذي يتراجع، والشعب الحائر والقلق والفقير، والوحدة الداخليّة التي تتفكّك.

 

 

 

 

 فلسنا نفهم لماذا لا يُصار إلى تشكيل حكومة حياديّة مصغَّرة قوامها شخصيّات معروفة ومحترَمة وقادرة، تعمل على توطيد الاستقرار السياسي الذي هو أساس كلّ استقرار اقتصادي واجتماعي وأمني. هذا الاستقرار يقتضي قيام دولة القانون والعدالة والمساواة.

 

 

 

فكم تؤلمنا ظاهرة الفلتان الأخلاقي الخطير، وفقدان الانضباطيّة والمناقبيّة والسريّة لدى معظم المواطنين، ولدى الكثير من الموظّفين الرسميّين، المدنيّين والأمنيّين المؤتمنين على حقوق الناس وحريّاتهم، وخصوصيّاتهم وكراماتهم، وأمنهم وحُرُماتهم، وبخاصّة على حُرمَة الموت وقدسيّته، كما حصل على إثْرِ الجريمة الوحشيّة التي ارتُكبت خلال هذا الأسبوع في بلدة برمانا. فلا يجوز استعمال وسائل التواصل الإجتماعي ووسائل الإعلام للتجنّي، والتشهير، والتحقير، وقلب الحقائق، ولانتهاك الكرامات. ولا بدّ من أن تقوم الأجهزة الأمنيّة، والسلطة القضائيّة، وأجهزة الرقابة والمحاسبة بالاضطلاع بدورها، وبالتالي معاقبة المخالفين والمرتكِبين والمحرِّضين ومحاكمتهم. وفوق كل شيء، ليس من المقبول ان نشاهد عودة فلتان السلاح الذي يحصد هنا وهناك ضحايا وجرحى، ويؤجج نار الفتن الطائفية والمذهبية والعائلية. اننا ازاء كل ذلك، ندعو الى التعقل وضبط النفس وعدم اللجوء الى العنف والثأر. وحدها دولة القانون والعدالة والمؤسّسات تحمي الجميع في حقوقهم وكراماتهم وصون حياتهم.

 

 

 

 

     4. بالعودة إلى إنجيل اليوم، وتذكار زيارة العذراء مريم لنسيبتها اليصابات، نتأمّل في شخص أمّنا مريم العذراء، التي وجدت في شرف أمومتها لابن الله المتجسّد دعوة لأداء رسالة الخدمة. فراحت للحال تخدم اليصابات العجوز مدّة ثلاثة أشهر حتى ولادة يوحنّا.

 

 

 

 

     إنّها تتجلّى صورةً للكنيسة الرسوليّة الحاملة المسيح للعالم بإعلان إنجيله، وللكنيسة الخادمة، المجسِّدة محبّته لكلّ إنسان، وللكنيسة المصليّة معها: "تعظّم نفسي الربّ، لأنّ القدير صنع بي العظائم" (لو 46:1).

 

 

 

     وهي القدوة في الإيمان لكلّ مؤمن ومؤمنة، وفي انفتاح القلب لقبول كلام الله وتعليم الإنجيل والكنيسة، والالتزام بإعلانه بالقول والمسلك والعمل. فكلام الله ينطوي دائمًا على دعوة ورسالة. وعندما يُنعم الله علينا بعطيّة ما روحيّة أو ماديّة أو معنويّة، فإنّما لأنّه ينتظر منّا خدمة ورسالة.

 

 

 

 

     وهي القدوة في خدمة المحبّة. فمن بعد أن أعلنت نفسها "خادمة الربّ"، راحت تجسّد هذا الجواب في خدمة اليصابات بمحبّة فائقة. وهكذا ألهمت في الكنيسة قيام مؤسّسات ومنظّمات ومراكز في البطريركيّات والأبرشيّات والرهبانيّات تلتزم خدمة التربية والاستشفاء، وتعتني بالفقراء وذوي الاحتياجات الخاصّة، والمحتاجين لأيّة عناية من مسنّين وأيتام ومعوّقين.

 

 

 

     وتجلّت مريم في زيارتها لاليصابات بأنّها "أوّل بيت قربان". لقد حملت يسوع جنينًا، فامتلأ البيت واليصابات من الروح القدس ومن الفرح. فحيث المسيح هناك الروح القدس. من الروح امتلأت اليصابات وتنبّأت عن مريم أنّها "أمّ الإله، وأنّها مباركة هي وثمرة بطنها"، "والجنين يوحنّا ارتكض من الابتهاج في بطن أمّه" (لو1: 41-45).

 

 

 

 

     5. إنّنا نصلّي كي يُنعم الله علينا بشفاعتها بنعمة السّماع لكلام إنجيله، كي يغتذي إيماننا وتتّقد المحبّة في قلوبنا، فننطلق في رسالة الخدمة، ممجّدين الثالوث القدّوس، الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.

 

 

 

موقع بكركي.