الغنى الحقيقي والفقر الحقيقي «متفرقات

 

 

الغنى الحقيقي والفقر الحقيقي

 

 

 

 

 

في هذا الأحد الثالث من أسابيع التذكارات، تذكر الكنيسة في صلاتها الموتى المؤمنين، الذين في اعتقادها ما زالوا يكفّرون عن خطاياهم، و"يتطهّرون" في حالة تُسمّى المطهر. هذا التذكار هو شركة روحيّة بين كنيسة الأرض المجاهدة في طريق الخلاص وكنيسة المطهر المتألّمة، بل شركة مع الذين سبقونا إلى بيت الآب. من أجلهم نقدّم ذبائح القداس والصلوات وأعمال المحبّة والخير. تتلو الكنيسة للمناسبة إنجيل الغني ولعازر (لوقا 16: 19-31)، المتناول محطّة حياتهما على الأرض، ومحطّة ما بعد الموت، للتأكيد على أنّ الخلاص الأبدي والهلاك منوطان بطريقة حياتنا على وجه الدنيا.

 

الغني تعلّق بمقتنياته وملذّاته ونَسِي الله، وبالتالي لم يرَ بعين الشفقة لعازر الفقير المرمي أمام باب دارته. أمّا الفقير فصبر على بلواه وظلّ معتصمًا بالله، من دون أن يفقد إيمانه به ورجاءه، أو يثور على الغني.

 

 

1. يجب الإسراع في القول انّ الغنى ليس الطريق إلى الهلاك، وانّ الفقر ليس الطريق إلى الخلاص. أغنياء كثيرون تقدّسوا في غناهم، إذ كانوا "أغنياء القلب" بالمحبّة لله وللناس، وبأعمال الخير والرحمة. فلنفكِّر بالقديس لويس التاسع ملك فرنسا، وبالقدّيسة هيلانه والدة الملك قسطنطين. هؤلاء امتلكوا الكثير لكنّهم عاشوا متجرّدين من أموالهم، متعلّقين بإيمانهم ومحبّتهم لله وللناس وللفقراء. الغنى ليس في ما تملك أيدينا، بل في القيم الروحيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة التي قبلناها. ولهذا قال الله: "يا بُنَي أعطني قلبك" (أمثال 23: 26)، والمسيحُ الربّ: "أطلبوا ملكوت الله وبرّه. والباقي يزاد لكم" (متى6: 33)، وفي موضع آخر: "لا يمكنكم أن تعبدوا ربَّين: الله والمال. فإمّا أن تبغض أحدهما وتحبّ الآخر؛ وإمّا أن تتبع الواحد وتنبذ الآخر" (متى 6: 24). قال القديس اغسطينوس: "أمام الإنسان طريقان: إمّا أن ينطلق من الله فينسى ذاته ثمّ يجدها على حقيقتها؛ وإمّا أن ينطلق من ذاته فينسى الله، ويضيّع حياته".

 

2. ليست مشكلة الغني في ممتلكاته، فهي علامة البركة من الله، بل في طريقة تصرّفه بها. أُعطيت له، ليعرف الله معطيها، ويحبّه ويخدمه في الإنسان، ولكي يحقّق ذاته وينمّيها بكلّ أبعادها الروحيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة والاجتماعيّة، ويعيش في كفاءة وكرامة؛ ولكي يُشرك غيره فيها، ليتمكّن بدوره من تحقيق ذاته، وتحفيز مواهبه.

 

لكن الغني تعلّق بها، وبملذّات الأكل والشرب والولائم واللِباس الناعم (لو16: 19)، ونسي الله، وأسكت صوته الداخلي في ضميره، الذي كان يمتزج بأنين لعازر المسكين، ولغة قروحه، وحنان الكلاب التي كانت تلحسها (الآية 20-21).

 

خيرات الدنيا عطيّة من الله للإنسان تسلّمها منذ اليوم الأول للخلق في جنة عدن (راجع تك2: 15). وهي معدّة لكلّ الناس. فلا يحقّ لأحد الاستئثار بها، وحجبها عن غيره بحكم الترابط البشري، وفضيلة التضامن التي بموجبها كلّنا مسؤولون عن كلّنا. هذا ما تعلّمه الكنيسة في عقيدتها الاجتماعيّة، وتضيف أنّ "الملكيّة الخاصّة ليست مطلقة، بل مثقَلة برهن اجتماعي". فلا يحقّ لصاحبها تبذيرها وحرمان الفقير منها. هنا تكمن مشكلة ذاك الغني، وهنا سبب هلاكه الأبدي.

 

3. ليس خلاص لعازر المسكين من فقره. فالفقر المادّي والثقافي والمعنوي لا يريده الله لأحد، بل يريد "فقر الروح". وقد طوّب أصحابه: "طوبى للفقراء بالروح، فإنّ لهم ملكوت السماوات" (متى5: 3). لعازر، الذي نال الخلاص الأبدي، جمع الفقر من جانبَيه: الفقر المادّي وفقر الروح أي التجرّد الظاهر في الاحتمال والصبر والقناعة. هذه الفضائل شكّلت "غنى قلبه". قداسة القدّيس شربل الخارقة لم تكن فقط ثمرة تجرّده وفقره الكبيرَين، بل وبخاصّة ثمرة قداسة مسلكه وحبّه لله وصلاته. فلأنّه اغتنى من الله تبخّرت في عينَيه كلّ خيرات الدنيا. وهكذا القدّيس فرنسيس الأسيزي، وسواهما الكثيرون، بدءًا من القديس مارون الذي تنسّك في العراء، والقديس سمعان على قمّة عامود، في الحرّ القارص والبرد والصقيع.

 

4. في هذا المَثَل الإنجيلي تأكيد على أنّ الموت ليس نهاية كلّ شيء، بل هو الباب إلى الحياة الجديدة التي هي إما خلاص أبدي وامّا هلاك أبدي. كلاهما من قرار الإنسان الحرّ. طريقة عيش الغني، كما رأيناها، هي التي أوصلته إلى نار الجحيم. وكذلك طريقة عيش لعازر، على العكس، أوصلته إلى الخلاص "في حضن ابراهيم". الخلاص والهلاك هما في يد كلّ إنسان، ولهذا السبب أعطاه الله عقلًا لمعرفة الحقيقة، وإرادة لصنع الخير، وحرية للخيار والتحرّك في إطار الحقيقة والخير، لكي لا يضلّ الحقيقة الموضوعيّة، ويفقد معنى الخير الموضوعي، فيختار الكذب والشّر، مسيئًا استعمال حرّيته، ومدّعيًا في ذلك أنّه حرّ، بينما هو في الحقيقة "عبد" و"رهينة" لأخطائه.

 

5. نلاحظ الفرق في التعبير الذي استعمله الربّ يسوع في الآية 22: فقال عن الغنى انّه "مات وقُبر" للدّلالة أنّه انتهى في ظلمة القبر، في جهنّم النار، منسيًّا من الجميع، ولا قيمة لأمواله، وملذّات الدنيا، فهي لا تشفع به.

 

أما عن لعازر المسكين فقال: "مات المسكين فحملته الملائكة إلى حضن ابراهيم"، أي إلى رحمة الآب السماوي وحنانه. ولذلك نصلّي لأجل موتانا ونقول: "الراحة الدائمة أعطهم يا ربّ، ونورك الأبدي فليضئ لهم. فليستريحوا برحمة الله والسلام، آمين".

 

6. الغني يتعذّب في نار جهنّم، وأصبح هو فقيرًا يتوسّل الرحمة من ابراهيم "ليرسل لعازر فيبلّ طرف إصبعه بالماء، ويبرّد لسانه، لأنّه متوجّع في هذا اللهيب... وليرسله إلى بيت أبيه، كي ينذر إخوته الخمسة، لئلّا يصيروا هم أيضًا إلى مكان العذاب هذا" (الآيتان 24، 27-28).

 

فكان جواب ابراهيم على المطلب الأوّل ان مع الموت تنتهي جميع الفرص والسبل للسَّير في طريق الخلاص، وتجنّب طريق الهلاك: "أنتَ في حياتك نعمتَ بخيراتك، ولعازر تحمّل بلاياه. وبيننا وبينكم هوّةٌ عظيمة يستحيل العبور منّا إليكم، ومنكم إلينا" (راجع الآيتين 25 و26).

 

وكان جوابه على المطلب الثّاني أنّ "لديهم موسى والأنبياء، فليسمعوا لهم" (الآية 29). "موسى والأنبياء" هم كلام الله في الكتب المقدّسة والإنجيل، وهم الكنيسة وتعليمها وإرشادها ورعاتها. وهم القدّيسون الّذين يأتون الآيات ويستجيبون الطّلبات، وهم كلمات العذراء مريم لبرناديت في مغارة لورد، وللأطفال الرّائين الثّلاثة في فاطيما، وكلمات الرّب يسوع عن محبّة قلبه للقدّيسة الرّاهبة مرغريت ماري ألاكوك، وعن الرّحمة الإلهيّة للقدّيسة الرّاهبة البولونيّة فوستينا.

 

 

 

*   *  *

 

 

ثانيًا، الإرشاد الرّسولي: فرح الحب

 

نواصل نقل تفسير قداسة البابا فرنسيس لأوصاف الحب الزّوجي، انطلاقًا من "نشيد المحبّة" الّذي كتبه القدّيس بولس الرسول لأهل كورنتس (1 كور 13: 4-7).

 

الصّفة الرّابعة هي أن الحبّ لا يتباهى ولا يتبجّح (الفقرتان 97 و98).

 

الحب الزّوجي لا يتلاءم والاستكبار وحب الظّهور والتّباهي بالذّات والمواهب، الذي يتباهى به الواحد بوجّه الآخر، بل يقتضي تجنّب الكلام المفرط عن الذّات، وأخذ المكان الخاص لا الوسط. فلا يستكبر أمام الآخر، ولا يتعجرف. ولا يقبل أن يبيّن نفسه أكبر مما هي في الواقع، فهذا انتفاخ مقيت. عنه كتب بولس الرّسول: "العلم ينفخ والحبّ يبني" (1 كور 8: 1).

 

ليس العلم هو الّذي يجعلنا كبارًا، بل المحبّة الّتي تتفهّم وتحمي وتخدم الضّعيف وتحافظ عليه. فلا نكبر بكثرة الكلام بل بحكمة الرّوح وقوّته (راجع 1 كور 4: 19).

 

الحب في العائلة يقتضي موقف التّواضع لا التّعجرف. من أجل التّمكّن من أن نتفهّم ونعذر ونخدم الآخرين من كلّ القلب، ينبغي الشّفاء من الكبرياء، والنّمو في التّواضع. لقد ذكّر الرّب يسوع تلاميذه أن أسياد العالم يسودون على شعوبهم، "أمّا أنتم فلا يكون الأمر بينكم كذلك" (متى 20: 26). إنّ منطق الحب ليس الاعتداد بالذّات، بل "من أراد أن يكون بينكم الأوّل، فليكن للجميع خادمًا" (متى 20: 27). أمّا منطق التّسلّط على الآخرين ومنافستهم لإظهار من هو الأقوى، فلا يتماشى مع الحياة العائليّة، لأنّه يضع حدًّا للحب. يوصي بطرس الرّسول: "إلبسوا كلّكم ثوب التّواضع في علاقاتكم المتبادلة. فإنّ الله يقاوم المتكبّرين، ويهب نعمته للودعاء" (1 بط 5: 5).

 

 

*   *  *

 

 

     

صلاة

     أيّها الرّب يسوع، تعلّمنا اليوم أنّ طريقنا إلى السّماء والخلاص يمرّ عبر حسن استعمال خيرات الأرض لخيرنا وخير من هم بحاجة إليها. فخيرات الأرض ملك لجميع النّاس، ومن حقّهم الاستفادة منها لكي يحقّقوا ذواتهم في هذه الدّنيا بكلّ أبعادها. أغنِ قلوبنا بالمحبّة والمشاعر الإنسانيّة، وبفضيلة التّجرّد، وقوّة الانتصار على مغريات الحياة. جدّد في قلوب الأزواج وأفراد كل عائلة الحب الحقيقي الّذي يتواضع ويخدم، ولا يستكبر وينتفخ ويتبجّح. ومنّا ومن عائلاتنا الّتي تعيش سعادة الحبّ المعطاء نرفع نشيد المجد والتّسبيح لك، يا ينبوع الحبّ، أيها الآب والابن والرّوح القدس الآن وإلى الأبد آمين.

 

 

التنشئة المسيحية - أحد تذكار الموتى المؤمنين

البطريرك الراعي - موقع بكركي.