التمييز «متفرقات

 

التمييز

 

 

 

 ترِِد كلمة "تمييز" وتتردّد كثيرًا في الإرشاد الرسوليّ الجديد "فرح الحبّ" للبابا فرنسيس حول العائلة. لليسوعيّين مثل (البابا فرنسيس)، لا تُعتبر هذه الكلمة عبارة عامّة، بل مُصطلح اختصاص. إنّ فهم "التّمييز" هو مفتاحنا لفهم "فرح الحبّ" بشكلٍ خاصّ، ولفهم البُعد الراعويّ للبابا فرنسيس بشكلٍ خاصّ. إنّ استخدام البابا فرنسيس لِمُصطلح "التّمييز" مرتبط ارتباطًا وثيقـًا بالضمير، وهو المُصطلح الآخر السَّائد في الإرشاد الرسوليّ الجديد، وخاصّة في كلّ ما يتعلّق بالتعقيدات المرتبطة بالقرارات ذات البُعد الروحيّ.

 

في المخيّلة الشعبيّة، يرتبط "التّمييز" أو الشَّخص القادر على التّمييز بصورة من هو قادر على التّفريق (بين طعم وآخر، إلخ…). فهو قادر على إصدار الحكم بشكلٍ صائب وحكيم. يستطيع أن يتذوّق الفن، والمأكل على سبيل المثال. فالتمييز شيوعًا هو المقدرة على الحكم والاختيار بين خياراتٍ مُتعدّدة.

 

لكن في الوسط الإغناطيّ - اليسوعيّ، يعني "التّمييز" أكثر من ذلك. هو الفنّ الروحيّ لاتّخاذ القرارات، الّذي يتطلّب ممارسات روحيّة مُعيّنة. يتأصّل تُراث التّمييز الروحيّ الإغناطيّ في (الرِّياضات الروحيّة)، دليل الصَّلاة الّذي وضعه القدّيس إغناطيوس دي لويولا، مؤسّس الرّهبانيّة اليسوعيّة، في القرن السّادس عشر.

 

في الحقيقة، إنّ أحد الأهداف الأساسيّة للرِّياضات الروحيّة هو تعليم الأشخاص التَّمييز الروحيّ.

إنّ التّمييز الروحيّ بالنسبة لإغناطيوس يعني أن نكون مُدركين أنّ الله يُريد منّا أن نقوم بالقرارات الصّائبة، وهو بدوره يُساعدنا لإدراك هذه الغاية. لكن عادة ً ما نتأثّر بحركاتٍ (قوى) مُتصارعة: الأولى تشدّنا نحو الله واتمام مشيئته، والثانية تُبعدنا عن الله وتحقيق سعادتنا. وكلّ واحدٍ منّا سبق واختبر هذا النوع من الشدّ عندما اتّخذ القرارات المصيريّة في حياته. إذ يشعر المرء بهذه القوى الداخليّة المتشابكة من الأخذ والردّ: بين الأنانيّة والكرم، بين الحريّة والأسر، بين الصحّة والمرض.

 

لذا، فالتّمييز، هو تمييز هذه القوى (المشاعر) الداخليّة والقدرة على تسميتها بشكلٍ واضحٍ؛ ومعرفة تأثيرها والحكم عليها. وأخيرًا، اختيار الطريق الّذي يتوافق ورغبة الله لي وللعالم. وتأخذ هذه المسيرة بعين الاعتبار، غِنى حياة المرء وتعقيدها، والأهمّ من ذلك، تفترض أنّ الله يتفاعل ومسيرة اتّخاذ القرارات هذه. وكما يقول القدّيس إغناطيوس: "يتفاعل مع الخليقة بشكلٍ مباشر".

 

لذلك، فالتّمييز ليس اتّباع قاعدة أو نظام مُعيّن بشكلٍ أعمى. ولا حاجة للقول، أنّ الإنجيل وتعاليم الكنيسة هما أساس بُنيان ضمير كلّ واحدٍ منّا… لكن في وقت الأزمات، يجب على المرء أن يعتمد على ما يُفضيه الله له ويحرّكه في قلبه.

 

كيف للمرء أن يُميّز؟ هنالك الكثير من الطرائق والتمارين مُستوحاة من كتاب "الرِّياضات الروحيّة". وسأشارككم الطرائق العامّة منها.

 

أوّلاً، تحاول أن تكون "غير مُنحاز"، حُرًّا من أيّ شيء قد يُبعدك عن اتّباع مشيئة الله لك. على سبيل المثال: إذا كُنت تُميّز أن تزور صديقك المريض في المستشفى أم لا، وأنت قلقٌ من انتقال عدوى ما إليك، أنت لست حُرًّا! فثمّةً أمرٌ يمنعك من القيام بعملٍ صالح. لا يعني عدم الإنحياز عدم الإكتراث [وهذا خطأ شائع]، بل أن تكون حُرًا في اتّباع مشيئة الله.

 

ثانيًا، أن تسأل المساعدة من الله. فليس التّمييز عمليّة تقوم بها بنفسك. فأنت تحتاج للرّب كي تختار المسيرة الصَّحيحة. فأنت تحتاج إلى التأمّل بكلمة الله، وتعاليم الكنيسة، كي تستند على أساسٍ صحيح. ويتمّ هذا في جوّ من الصَّلاة. لكن علينا إعمال العقل بشكلٍ كاملٍ أيضًا. وكما يُحبّ اليسوعيّون القول: "ثِق بقلبك، لكن استعمل عقلك".

 

ثالثًا، تأمّل جميع الحركات الداخليّة في قلبك، لترى أيّ حركات تأتي من عند الرّب، وأيّها ليست من عنده. وبالنسبة لمن يتقدّمون في الحياة الروحيّة، يقول إغناطيوس: "يحمل إلينا (روح الله) الدّعم والتعزية والتشجيع وصفاء الذهن". فكّر بشخصٍ قرّر مسامحة أحدهم، وهو يشعر بتعزيةٍ كلّما فكّر بالموضوع. وعلى النقيض، يحمل (روح الشرّير) القلق والمرارة، ويضع عوائق وهميّة تهدف لاعاقة تقدّمنا الروحيّ. وهذا غالبًا ما يتجلّى في روح الأنانيّة. وفي حالة أنّ شخص يفكّر في مسامحة أحدهم، يزعم الرّوح الشرّير ويقول: "إذا سامحته، سيراك الآخرون وكأنّك تمرّغت في الأرض".

 

ومن المُثير للاهتمام، أنّ إغناطيوس يتوجّه للأشخاص الّذين يتّجهون بالاتّجاه المُعاكس، من الصَّلاح إلى الخطيئة، بقاعدةٍ مُغايرة. فروح الله هُنا، لا يُشجّع بل يلسع، وهذا ما نُسمّيه ايقاظ الضّمير. بينما روح الشرّ، يُشجّع في هذه الحالة التصرّفات السَّـيِّـئة: "لا تقلق، تابع في السَّرقة من شركتك، فجميعهم يقومون بذلك". إنّ من يخوض مسيرة التّمييز دومًا في حياته، سيُصبح مع الوقت، ضليعًا، ومُرهفـًا لحركات قلبه الدّاخلية البسيطة.

 

رابعًا، إن لم يكن هنالك جوابٌ واضحٌ، قد تعتمد ممارسات أُخرى، يقترحها القدّيس إغناطيوس علينا. قد تتخيّل شخصًا في حالتك، وتُفكّر بالنصيحة الّتي قد تُشاركه إيّاها. وهذا ما من شأنه أن يخفّف من رغباتنا الشّخصيَّة في عمليّة التّمييز. كما يمكنك أن تفكّر بما ستقوله ليسوع يوم الدَّينونة (قد لا ينفع هذا التمرين سوى في الحالات المُعقـَّدة، الّتي تمسّ القضايا الأخلاقيّة العويصة). أو يمكنك التّفكير بالكيفية الّتي ستحكم فيها على قرارك يوم تكون على فراش الموت (من شأن هذا التمرين أن يوضّح ما هو الأهمّ في حياتي).

 

أخيرًا، بعد قيامك بالتّمييز الصّالح، ستشعر بنوع من "التّوكيد"، أو شعور بأنّك على صواب. وستجد نفسك على نفس الطريق الّتي ترسمه رغبة الله لحياتك. وهذا بالطبع سيحمل لك السَّلام الداخليّ.

 

لا يتوجّه البابا في الإرشاد الرسوليّ للعائلة والأفراد وحسب، بل أيضًا للرُعاة والمسؤولين عن مساعدة الأشخاص لبناء ضميرهم. لن ينتفع كلّ شخص وكلّ راعٍ من تمارين التّمييز أعلاه. لكن من شأن النظرة الشّاملة الّتي تقدّمها عمليّة التّمييز: أنّ الله يُريد مساعدتنا في اتّخاذ القرارات الصَّائبة، وأن بإصغائنا لقلوبنا نُصغي لمشيئة الله في حياتنا، أن تساعدنا في كلّ حالة من حالات اتّخاذ القرارات المصيريّة.

 

يتناول "فرح الحبّ" مرارًا وتكرارًا التّمييز والضمير. وهذا ما يذكّرنا أنّه مهما بلغت أهمّية القوانين، فإنّ الأمور الراعويّة تحتاج أن تستند على أمورٍ أُخرى كذلك الأمر: نِعمة الله العاملة في قلوب المؤمنين، الّتي تُساعد على القيام بقرارتٍ صائبة وصحيّة وواهبة للحياة.

 

 

 

الأب جيمس مارتن اليسوعي.