إثنين الرماد «متفرقات

 

 

قد نخجل نحن مسيحيّو اليوم إذا ما فتحنا سفر أشعيا النبيّ وقرأناه مُعلناً: "الصّوم الذي أريده هو أن تُحل قيود الظلم، وتفك سلاسل الإستعباد ويُطلق المنسحقون أحراراً وينزع كلّ قيد عنهم". (أش58، 6). نخجل لأنّنا نوشك أن نحيد عن الطريق، نرمي الجوهر بحثاً عن قشور، ونغضّ الطّرف عن المحوريّ متمسِّكين بما هو عابر.

 

 

 

نبحث عن بعض إماتات، حاصرين صيامنا بامتناع عن طعام ننتظر دقائقه تمرّ متباطئة، أو نقطع عهداً بانقطاعٍ عن أمر نحبّه، منتظرين إنتهاء أيّام أربعين لنعود إليه بنهم أكبر.

 

 

 

 

ليس الصّوم هذا إذا ما عدنا إلى أشعيا النبيّ، "ليس هو أن أحني رأسي كعشبة وأفترش المسح والرَّماد" (58، 5)، والويل لي إذا حصرت الصّوم بهذا وحده.  منطق صومنا هو منطق مجتزأ، وإذا طرحنا على أنفسنا السّؤال حول معنى الصّوم، تقفز إلى خاطرنا عشرات الأجوبة: الصّوم هو فترة ألم، فترة إنقطاع، فترة إماتة، فترة إختبار...

 

 

 

 

ونوشك أن ننسى الجزء الأهمّ والهدف الأساسيّ: الصّوم هو الإنطلاق نحو الآخر لإعطائه الحياة، هو العودة إلى الله، لأعلن له إنّي أحبّه فوق كلّ الخيور الأخرى، وما انقطاعي عمّا هو حسن إلاّ لأعلن بملء كياني لله مصدري وغايتي، كم أنا أحبّه، وكم هو أغلى من كلّ الخيور المادّية.

 

 

 

صومنا يضحي مجتزأ إذا ما أهملنا ما هو محوريّالآخر، صورة الله ومِثاله، أخي الانسان المتألّم، أكان ألمه ماديّاً أم معنويّاً. فالصّوم كما يقول أشعيا النبّي: :هو أن أكسر للجائع خبزي وأدخل الطريد المسكين بيتي، وأن أرى العريان فأكسوه، ولا أتوارى عن أهل بيتي". (أشعيا 58، 7).

 

 

 

هي قيم نحتاجها اليوم في مجتمع يتألّم، أكاد أقول يُنازع، تخنق أبناءَه الفرديةُ والمادّيَّة، الوصوليّةُ والإستهلاك، يحيا كلٌ بمفرده كأنّما عالمنا قد صار مجموعة جزر لا تتقاطع فيها الدّروب ولا تتلاقى.

 

 

 

الصّوم الذي نحتاجه اليوم هو بمثابة "النزوح إلى الأعماق لإلقاء الشبكة" (لوقا 5، 4)، البحث عن الإنسان وإعطائه الخلاص. هو ما أعلنه أشعيا ودعاه "الصّوم المقبول عند الرّبّ"، وهو ما تمّمه يسوع المسيح مُعطيّاً ذاته فداء أحبّائه.

 

 

 

مجتمعنا اليوم مُحتاج إلى الخبز وصومنا هو مشاركة المحتاج خبزنا. والخبز ليس فقط كمأكل ماديّ، بل هو في الكتاب المقدّس رمزٌ للحياة نفسها، هو تقاسم المصير، وإتاحة المجال للإنسان أن ينطلق من جديد في حياة جديدة.

 

 

 

عالمنا اليوم يبحث عن خبز يشبع فيه جوعه، شبيبتنا تبحث عن خبز يعطيها معنى لحياتها، تفتش عنه في أزقّة الظلام وأودية المخدرات وعبثيّة الّلذة.

 

 

 

أن أكسر للجائع خبزي هو أن أعي دعوتي كمسيحيّ لأن أقف إلى جانب من هو بحاجة إلى الرَّفيق، أن أكسر خبزي هو أن أُشبع جوع المتألّم إلى كلمة تعزية، والوحيد إلى وقفة تعاضد، والمهمّش إلى التفاتة أخويّة واليائس إلى معنى جديد لحياته.

 

 

 

الصّوم المقبول عند الرّبّ هو "أن أُدخل الطريد بيتي"، أي أن أُفسح للغريب مكاناً في حياتي، فلا أجعل نفسي محور الوجود ومالكاً للحقيقة المُطلقة، أن أُدخل الطريد بيتي هو أن أقبل حقّ الآخر في أن يكون مختلفاً، أقبله، وأحبّه وأدخل في علاقة حوار معه، فأغتني منه وأغنيه.

 

 

 

الصّوم هو أن "أرى العريان فأكسوه"، وأيّ عُري اليوم أفضح من عري الإنسانيّة الممتهنة كرامتها، والصَّوم الحقيقيّ هو نظرة جديدة إلى أخي الإنسان، نظرة جديدة بأعين جديدة، أعين المسيح، وبمنطق مختلف، منطق النّاصريّ الذي مات ليُعيد للإنسان كرامته.

 

 

 

 

الصّوم هو أن أنظر إلى الإنسان المُعَرّى، كما المسيح على الصَّليب، عرّاه مجتمع يرى في جسده وسيلة لذَّةٍ، وفي شخصه دربَ عبورٍ يدوسه ليصل إلى ما هو أبعد.

 

 

 

الصّوم الحقيقيّ هو إعادة الثوب إلى إنسان عصرنا، أن أنظر إلى الإنسان كقيمة مُطلقة لا تحدّها لا وصوليّة ولا ماديّة ولا إستهلاك، لأنّه على صورة الله ومثاله قد خُلق، وثمنه دم المسيح المُراق فوق الجلجلة.

 

الصّوم الذي نصبو إليه هو صوم المسيح الرّافض قيمَ العالمِ الثلاث، قيماً لا تزال تستعبد مجتمعنا بعد مرور عشرين قرناً ونيّف:

 

 

 

إن كان الخبز هو رمز الحياة، فالحجر هو رمز الموت والإنغلاق على الذات، كالصّخرة التي وُضعت على قبر الفادي تسدّ كلّ بريق أمل.

 

 

 

تجربة "قل لهذه الحجارة فتتحوّل خبزاً"، هو حصر وجودنا بالبعد المادي الجسديّ، واستعباد جسدنا لسلطان الشّهوة، فنضع رجاءنا في اكتفاء ماديّ، باحثين عن الغنى، أو في شهوة جسدية علّها تشبع فراغ قلبٍ فلا تعطيه إلاّ فراغاً أكبر.

 

 

 

صومنا، على ضوء تجربة الشّيطان الأولى، هو أن نعي أنّ إمكانيّة إستخراج معنى لحياتنا، خبزاً لوجودنا، من قيم الماديّة الميتة، صومنا هو عودة إلى الذات للبحث عن الخبز الحقّ، الخبز الذي أعلنه المسيح المُجَرَّب والمنتصر، خبز كلمة الله التي تُعطي الحياة الحقـَّة.

 

 

 

وتجربة السّلطة "أُعطيكَ هذا السُّلطانَ كُلَّهُ ومَجدَ هذِهِ الممالِكِ، لأنَّني أملكُهُ وأنا أُعطيهِ لِمَنْ أشاءُ. فإنْ سَجَدتَ لي يكونُ كُلُّهُ لكَ" (لو 4، 6- 7). هي تجربة السَّعي إلى سلطة على حساب كرامة شعوب وتضحية شباب ودماء شهداء ودموع شيب.

 

 

 

هي أن أضع خلاصي في تسلّطي على قريبي، ونجاحي في استعبادي لِمن هو محتاج إليّ. الصَّوم هو دخول في علاقة حبّ مع كلّ إنسان، علاقة حبّ تتجلّى في قبولي للآخر كمساوٍ لي، له الحقوق نفسها. الصّوم هو إعادة نظرٍ في نوعيّة علاقتي بالآخرين: في عائلتي، ومجتمعي، وعملي.

 

 

 

كم من مرّات في حياتنا اليوميّة نسجد للشّيطان سعياً إلى ممالك العالم وغناه: صرنا نسميّ السّرقة "شطارة" وسرقة صندوق ربّ عملي "ذكاء"، وتسلّطي على القريب "قوّة شخصيّة" وانتهاك حقوق الموظّف "حسن إدارة"، هي كلّها أفعال سجود معاصرةٍ لشياطين عصرنا، وما أحوجنا إلى كلمة المسيح المنتصر على التّجربة عينها: "لله وحده تسجد".

 

 

 

 

وتجربة الله، "إرمِ بنفسك فهو يوصي ملائكته بك"، هي تجربة نواجهها كلّ يوم، تجربةُ أن أجعل نفسي إلهاً بمعزلٍ عن الله خالقي والرّبّ فاديّ، هي أن أسعى إلى خلاصي بقوّتي، وبعقلي، منصّباً ذاتي كمفسّر للشرائع الإلهيّة والإنسانيّة، وأجعل نفسي أذكى وأفقه وأعلم من كنيسة بُنيت على صخرة المسيح وتستمدّ منه تعليمها.

 

 

 

هي تجربة قد أسقط فيها:  أظنّ نفسي قادراً على امتلاك الله بعقلي، وحين أقرّر عنه ما هو الصّالح لي، أرمي بذاتي في تهالك وأطلب منه إرسال الملائكة. أرتكب الشّر وأثور على الله حين تقع عاقبة شرّي عليّ. أثور عليه وأُغيّبه عن حياتي إذا ما مرضتُ أو فقدت حبيباً أو قريباً، وأنسى أنّه عانى من أجلي الوحدة والألم والموت، حمل صليبي عنّي ليعلّمني كيف يتمّ تحويل الألم فرحاً والموتُ حياة. الصّوم الأسمى هو بناء علاقة إيمان بالله، والإيمان ثقة بلا حدود، عالماً أنّ الله هو أبٌ، والأب يسعى إلى خير ابنه.

 

 

 

صومنا اليوم هو أن نعلن رفضنا لهذه القيّم العرجاء القديمة المتجدّدة، وأن نسعى، في حياتنا اليوميّة، وفي أدقّ تفاصيل يوميّاتنا، إلى عدم تكبيل واقعنا بالماديّة، واستعباد ذواتنا للمال بالبخل والطمع والحسد وإبادة المنافس، هو أن نُعلن رفضنا لشهوة السّلطة واختزال الآخر والسَّعي إلى ممالك الأرض العابرة، فأبني في بيتي الحوار لا التسلّط، وفي عملي العدالة لا الإستغلال وفي وطني المواطنية لا الإستعداء.

 

 

 

 

صومنا هو أن نخلق فينا حسّ الإنتماء لكنيسة تجمع الشّعوب من كلّ عرق ولون ولسان، يوحّدها إيمانها بالفادي الأوحد، والطاعة لإرادة الرّبّ في حياتنا خاصّة حينما يبدو لنا أنّ الحلّ الأسهل هو في تتميم إرادتنا، والتغاضي عن تعليم الكنيسة، الأمّ والمعلّمة.

 

 

 

 

عندها تصبح للإماتة معنى، وللإنقطاع هدف، حين أقف وقفة فحص ضمير وعودة إلى الذات الداخليّة، متذكّراً انّ لي وسائل تقديس إلهيّة أستند إليها: أسرار الكنيسة، لاسيّما سرّي التوبة والافخارستيا، والكتاب المقدّس، كلمة الله تتّجه إليَّ شخصيّاً وجماعيّا، من خلال التزامي برعيتي، بيتي الثاني.

 

 

 

 

كم هو جيد أن تعود رعايانا بأغلبها إلى ما نسمّيه أسبوع "رياضة روحيّة" تسبق أسبوع آلام الفادي، تعود فيها الرعيّة كلّها، كجماعة واحدة، نحو الله، من خلال الصّلاة والتأمل وسماع كلمة الكتاب المقدّس يشرحها الكاهن فتقع في القلب كحبّة قمح تنمو في الحياة اليوميّة وتصبح سنابل خلاصٍ لي ولمن هم حولي.

 

 

 

عندها أقدر أن أقول، أنا صائم، أشترك في سرّ آلام المسيح الفادي، فلا تبقى آلامي مقفلة على عدميّة النوح والبكاء، بل يشعّ من أحلك ظلماتها نور المسيح القائم، عندها أزرع رجاء القيامة، وأُعطي لألمي، ومرضي وضيقتي، وحتى لسياستي معنى آخر، فرغم حلول الظّلام، واليأس المُطلق، والخوف الكبير، أُعلن رجاء القيامة، أُعلن موت منطق قديم وولادة آخر جديد، أُعلن رجاء قيامة يسوع المسيح وأبتهج: فالموت لن ينتصر.

 

 

 

الأب بيار نجم ر.م.م.