هل الله هو السيد أم السيد هو أنا؟ «القوت اليومي

الصحراء- حيث اختلى يسوع- هي، قبل كل شيء، مكان الصمت، والقفر، حيث الإنسان محروم من الخيرات المادية؛ حيث يجد نفسه أمام الأسئلة الأساسية حول الوجود؛ حيث يجد نفسه مدفوعا للإبحار نحو ما هو جوهري، ولهذا السبب خاصة نحو اللقاء مع الله.

لكن الصحراء أيضا هي مكان الموت - لأنه حيث لا يوجد ماء لا يوجد أيضا حياة-، ومكان العزلة، حيث يُجرب الإنسان بطريقة أكثر عنفا. ذهب يسوع في الصحراء، وهناك جُرب بتجربة التخلي عن الطريق الذي حدده الآب له والسير على دروب أخرى أكثر سهولة ودنيوية (راجع لو 4، 1-13). وهكذا حمَلَ على ذاته تجاربنا؛ وحمل معه شقاءنا، لكي ينتصر على الشرير ويفتح لنا الطريق نحو الله، طريق التوبة.

لنتأمل في التجارب التي واجهها يسوع في الصحراء كدعوةٍ لكل واحد منا ليجيب على تساؤل أساسي: ما هو الشيء المهم حقا في حياتي؟ في التجربة الأولى، يعرض المجرب على يسوع أن يحوّل الحجر إلى رغيف ليسد جوعه. فيؤكد يسوع أن الإنسان يحيا أيضا بالخبز، ولكن ليس فقط بالخبز: فالإنسان، بدون الرد على جوعه للحقيقة، جوعه لله، لا يستطيع الوصول للخلاص (راجع آيات 3-4).

في التجربة الثانية، يقدم الشيطان إلى يسوع طريق السلطة: فيقتاده إلى فوق الجبل ويقدم له السلطان على العالم؛ ولكن هذا ليس طريق الله: فإن الأمر واضح بالنسبة ليسوع فليس السلطان الدنيوي هو الذي سيخلص العالم، وإنما سلطان الصليب، والتواضع، والمحبة (راجع آيات 9-12).

في التجربة الثالثة، يعرض الشيطان على يسوع أن يلقي بنفسه من على شُرفة هيكل أورشليم وأن يترك الله يخلصه عن طريق الملائكة، أي أن يقوم بشيء مثير ليضع اللهَ نفسَّه في التجربة؛ ولكن الجواب هو أن الله ليس شيئا يُمكننا أن نفرض عليه شروطنا: إنه سيدّ كل شيء (راجع آيات 5-8).

ما هي نواة الثلاث تجارب التي جُرب بها يسوع؟ إنه عرض لاستغلال الله، ولاستخدامه من أجل المنفعة الشخصية، ومن أجل المجد الفردي، والنجاح الذاتي. ومن ثمّ، بالأساس، لوضع أنفسنا مكان الله، أي إخلائه من وجوده، وجعله يبدو زائدا (عن اللزوم). يجب على كل منّا أن يسأل نفسه إذا: ما هو المكان الذي يحتله الله في حياتي؟ هل هو السيد أم السيد هو أنا؟

إن الانتصار على تجربة إخضاع الله للذات، وللمنافع الخاصة، ووضعه جانباً، وإرجاع الأمور إلى ترتيب أولويتها الصحيح، أي إعطاء الله المكان الأول، هو مسيرة يجب على كل مسيحي أن يسلكها باستمرار. "التوبة"، هي دعوة سنسمعها أكثر من مرة أثناء الزمان الأربعيني، وهي تعني اتباع يسوع حتى يتحول إنجيله إلى مرشد حقيقي للحياة؛ تعني السماح لله بأن يحوّلنا، والتوقف عن الظن بأننا البناؤون الوحيدون لوجودنا؛ تعني الاعتراف بكوننا خليقة، وبأننا نعتمد على الله، وعلى محبته، وبأنه فقط في "فقدان" حياتنا فيه يمكننا أن نربحها. وهذا يتطلب أن نبني اختياراتنا على نور كلمة الله. فلا يمكن اليوم أن نكون مسيحيين فقط نتيجة لكوننا نحيا ببساطة في مجتمع ذي جذور مسيحية: يجب ايضا على مَن يولد في عائلة مسيحية ويتربى على التعاليم الدينية، أن يجدد، يوميًّا، خيار كونه مسيحيا، أي إعطاء الله المكان الأول، أمام التجارب التي تضعه فيها باستمرار ثقافةٌ متعلمنةٌ، وأمام الحكم النقدي لكثيرين من المعاصرين.

إن التجارب التي يعرضها المجتمعُ الحاليُ المسيحيَّ، في الحقيقة، هي كثيرة، وتمس الحياة الشخصية والاجتماعية. فليس من السهل اختيار الأمانة، الزواج المسيحي والأمانة له، ممارسة أعمال الرحمة في الحياة اليومية، ترك مكانا للصلاة وللصمت الداخلي؛ ليس من السهل الاعتراض بشكل عام على الاختيارات التي يظن البعض أنها واضحة، مثل الإجهاض، والقتل الرحيم في حالة الأمراض الخطيرة، أو الاختيار بين الأجنة للوقاية من الأمراض الوراثية.

تجربة إغفال الايمان الشخصي هي دائما حاضرة وهكذا تصبح التوبة استجابة لله، يجب تأكيدها تكرارا في الحياة.

البابا بنديكتس السادس عشر